يُصرُّ كثيرٌ من المفكرين المسلمين المعاصرين على أنّ المطلوب في المجال الديني الإسلامي اليوم إنما هو التجديد الراديكالي لا الإصلاح. وهذه الإشكالية قديمةٌ في النقاش. وقد طُرحت أولاً في المجال الإسلامي الهندي. وقد عرض لها أولاً الفقيه الهندي شبلي النعماني في كتابه «علم الكلام الجديد». وصارت واضحةً في كتاب محمد إقبال «تجديد التفكير الديني في الإسلام» في الربع الأول من القرن العشرين.
وما كان الأوائل هؤلاء يُعرضون عن مطلب الإصلاح، إلاّ لأنهم لا يريدون تبنّي مصطلح «الإصلاح» البروتستانتي الأصل. فهو ما كان مصطلحاً تطورياً متدرجاً، فقد أفضى إلى انقسامٍ عميقٍ في المجال الديني المسيحي، إذ صار هناك ما يشبه أن يكون دينين: كاثوليك وبروتستانت.
ومن حيث العدد فإنّ الكاثوليك (المحافظين) ما يزالون الأكثر عدداً، لكن الإصلاح البروتستانتي هو الذي أسهم بشكلٍ مباشرٍ فيما صار يُعرف بالحداثة الدينية الموازية للحداثة في المجتمع والدولة. أما المفكرون المسلمون المعاصرون فيؤْثرون عمليات التجديد باعتبارها الأكثر جذرية. بمعنى أنهم لا يخشون الانقسام بقدر ما يخشون الجمود والقصور.
والحقُّ أنّ عمليات الإصلاح التطوري جرت على مدى القرن العشرين، وفي المجال الفقهي أكثر من المجالات العقدية، والرؤية العامة للدين وأدواره وعلائقه في المجتمعات والدول. فهل كان التطور الإصلاحي كافياً؟ ما كان كافياً بالطبع، لكنّ الانقسام حصل ليس بسبب القصور وعدم الكفاية. بل لأنّ الأمور اتخذت منحيين متناقضين. فأهلُ الإصلاح وإن لم يسمُّوه بهذا الاسم، كانوا يستجيبون لحاجات ومتغيرات الدول الحديثة والمجتمعات في عالم الإسلام. في حين ظهر اتجاهٌ أو اتجاهات راديكالية وإحيائية تطلب «الأصالة» والطهورية، وتعيد قراءة التاريخ التشريعي والعقدي للدين بما يؤدي إلى صدامٍ مع الدول الوطنية الناشئة ومع العالم.
وبالطبع فإنّ دُعاة التجديد الراديكالي ليسوا من أتباع الأصالة والطهورية، بل إنّ همَّهم واهتمامهم لا يزال منصباً في الضغط على «التقليد». هم يرون أنّ الإصلاحيين، من أهل «تجديد التقليد» قصّروا كثيراً، مما أتاح الفرصة لأهل الإحياء والأصالة، لكي يفرضوا تأويلاً رجعياً أو ثورياً للدين. وهكذا فإنّ المسألة أو الإشكالية تعود لطرائق التشخيص لما نعاني منه اليوم من صِدامٍ مع الدولة الوطنية الحديثة، والقيم العالمية.
ليس التطوريون التقليديون هم الذين اصطدموا بالعالم وبالدولة الوطنية، بل الإحيائيون العنيفون وغير العنيفين هم الذين تسببوا في ذلك. أما أهل تجديد التقليد فكان همُّهم وما يزال التلاؤم مع ظروف ومتطلبات الحداثة والدولة الوطنية الحديثة.
كيف يمكن الوصول إلى قراءةٍ مشتركة أو تشخيص مشترك بين الحداثيين الذين يملكون زمام الثقافة العامة وبعض وسائل الإعلام، وأولئك الذين يعتبرون أنّ المشكلة ليست عندهم، بل عند الأصاليين، واستطراداً عند الحداثيين الرادكاليين الذين يطالبون بالمستحيل.
تعالوا نبحث عن مقياس أو مقاييس للمسارات المختلفة. المقياس يكون بالنظر في متطلبات الحداثة والدولة الوطنية والعلاقات الممكنة بالعالم. ولستُ أقصد أنّ المطلوب اتّباع هذا النهج أو ذاك. فهناك اتفاقٌ على أنّ الإحيائيات الراديكالية ليست هي الحلّ، بل إنها تُصادمُ أول ما تُصادم ما يطالب به الحداثيون الذين يريدون التجديد الراديكالي. نعم، لقد صار التجديد الديني العقدي والفقهي أو التجديد في رؤية العالم، هو المطلوب. إنما مَنْ هم الشركاء في عمليات التغيير الضرورية؟ لا نجد أمامنا إمكانيات إلاّ بقيام تعاوُنٍ معقولٍ بين المؤسسات الدينية ودُعاة الحداثة، وبخاصةٍ أنّ أهل تجديد التقليد هؤلاء ما يزالون يتمتعون بثقة الجمهور الذي يُراد التأثير فيه وعياً وتصرفاً.
إنّ لدينا أدلةً على أنّ المجددين المؤسساتيين يمضون باتجاه التجديد والتغيير كما يبدو في الإعلانات العامة والشراكات مثل «وثيقة الأخوة الإنسانية» بين البابا وشيخ الأزهر بأبوظبي، ومثل «ميثاق حلف الفضول الجديد» الذي أنجز نصَّه المتقدم العلاّمةُ الشيخ عبد الله بن بيه في منتدى تعزيز السلم بالإمارات. لقد تقبَّل الجمهور المتدين هذا التطور الآخذ بالقيم الأخلاقية الجديدة التي يتبنّاها العالم المعاصر. وهكذا لا مواجهة حقيقية للتحديات إلاّ بالشراكة والتعاون، ولا بأس بالانتقاد واقتراحات المُضيّ إلى الأمام، ومن جانب حداثيي التجديد اليوم وغداً، وإنما يكون ذلك بالحوار وليس بالقطيعة.
*أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية