ذهبتُ إلى مصر قبل عيد الأضحى بسبب حصولي على جائزة النيل للمبدعين العرب، ولأنني افتقدتُ بشدةٍ- كسائر المثقفين- الربوع والمعاهد ومعرض الكتاب وكلَّ الجديد والقديم في ميادين الكتابة والرؤى الثقافية والدينية، والتي حال بيننا وبينها الوباء الهاجم. وجدتُ أنّ الجديد البارز يتعلق بنوعين أو جنسين أدبيين أو ثقافيين: الفن الروائي، والترجمات عن اللغات الحية.
وهذان الجنسان كانت لمصر ريادةٌ فيهما قبل أكثر من قرنٍ ونصف، فالاهتمام مستمر وإن اختلفت السياقات والمقاصد. ولا أُريد في هذا المعرض الحديث عن دلالات هاتين الظاهرتين أو الاهتمامين، بل عن مسألةٍ ثالثةٍ وجدتُها شديدة الحضور وإن اختلفت التعبيرات عنها، وهي مسألةُ التجديد الديني. وكنتُ قد قرأتُ فيها كتاب المثقف المصري البارز نبيل عبد الفتاح بعنوان «تجديد الفكر الديني» (2018)، وكتبتُ عنه هنا لصحيفة «الاتحاد». ويشكّل الكتاب استطلاعاً تأملياً واجتماعياً لهذه القضية الخطيرة التي ما غابت عن مصر والفكر العربي على مدى القرن الماضي، وعقدي القرن الحالي.
بعد كتاب نبيل عبد الفتاح في طبعته الثانية، اشتعلت، كما هو معروف، معركةٌ بين المثقفين والإعلاميين المصريين من جهة، والأزهر من جهةٍ ثانية، خلال مؤتمر الأزهر للإصلاح (2019)، افتتحها صِدامٌ بين شيخ الأزهر أحمد الطيب والدكتور محمد عثمان الخشت رئيس جامعة القاهرة، وأتاح ذلك المجال للخوض في ثناياها لمن يعرف ولمن لا يعرف! لقد خمد أُوارُ تلك المعركة بالطبع الآن، لكنّ الترددات ما انقضت.
وعلى سبيل المثال، فإنه في عدد «الأهرام» (في 13/7/2021) والذي نُشرت فيه مقابلةٌ معي، هناك مقالةٌ للأستاذ مراد وهبة عن الخيار بين الرشدية والأشعرية! لقد وجدتُ، والحقّ يقال، أنّ بارزين عديدين بين المثقفين المصريين، ومنهم مَن شارك في المعركة بشأن الموروث الديني، بمطالعاتٍ عنيفة، يرغبون اليوم بشدّة في التصالُح مع الأزهر وشيخه. بيد أنّ معظم هؤلاء التصالحيين الجدد ما يزالون على إحدى المقاربتين: المقاربة التي ما تزال تذهب إلى القطيعة مع الموروث، والمقاربة التي تنتصر للموروث العقلاني والتقدمي من وجهة نظرها، وبحسب تصنيفها، في مواجهة الموروث التقليدي والرجعي! وكما في المقابلة قلتُ للأصدقاء الذين اجتمعوا بمكتب رئيس تحرير جريدة «الأهرام»: حتى العقلانية والتقدمية ما عاد يمكن التماسُها في هذا التيار الفكري أو ذاك، وإنما الصراع اليوم في مجالنا الثقافي والسياسي والاستراتيجي هو على روح الدين ووظائفه، وعلى هوية وانتماء ووظائف دُوَلنا الوطنية وعلاقاتها بالدين ومؤسساته العاملة في ديارنا.
فالأزهر الذي كان يقيم مؤتمراً للإصلاح والتجديد عام 2019، كان شيخه يذهب إلى أبوظبي للإعلان عن وثيقة الأخوة الإنسانية مع البابا فرنسِس. فإذا كان المقصود هو التجديد والنهوض، يكون علينا جميعاً أن نعتبر المبادرتين معاً، الإصلاح الديني الداخلي والعملي، والذهاب إلى شراكاتٍ كبرى مع ديانات العالم وثقافاته. واللوم لا يقع هنا على الإعلاميين الذين تهمهم الإثارة لاجتذاب أسماع وأبصار (وليس بصائر) الرأي العام، بل على المثقفين الكبار الذين يعرفون الدين وتحديات التجديد، وعمل المؤسسات الدينية، وأهمية دورها الآن في سياق تجديد تجربة الدولة الوطنية المدنية.
نحن أحوج ما يكون إلى التجديد الديني أو إلى «خطاب» التجديد الديني، بمعنى مراجعة المفاهيم وتجديدها، وتأهل المؤسسات الدينية وتأهيلها للقيام بالإسهام في المهام الأربع: مخاطبة الجمهور المتدين الذي لا يصل إليه المثقفون بخطاب الاعتدال، وخطاب الإجراءات العملية في «النوازل» التي تخدم الناس في حياتهم الأُسرية والاجتماعية –والانتصار للدولة الوطنية التي تحمي الاستقرار والوحدة والحقوق الأساسية للناس بدلاً من أوهام واستثارات الإسلام السياسي- والذهاب إلى العالم ودياناته وثقافاته لتغيير الرؤية للإسلام الذي أساء إليه المتطرفون والصحويون- والإفادة في الوقت نفسه من الثقافات الجديدة في الدين وفي النزوع الإنساني العالمي.
ولا بلوغ لذلك كله إلا بالتعاون بين علماء الدين والمثقفين تحت مظلة الدولة الوطنية.
*أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية