في ذلك الزمان، وتحت سطوة الحر، ووطأته، كان لشراب الفيمتو المجمد ذائقة تفتح شوارع شاسعة في النفس، وتحمل الروح على كفي البذخ إن كان في ذلك الزمان من بذخ، ولِم لا يكون، فالحياة بوسعها أن تمنحك الرفاهية لمجرد أن تفتح لك صندوق العفوية، وتشرع بك سفينة الطفولة إلى أيام وأحلام كأنها أجنحة الطير.
عند مائدة الإفطار يجتمع الصغار وهم يلحسون الشفاه، وعيونهم تلمع بشراهة النفس تحت ضربات مخمصة آخر النهار، وما يفعله الجفاف في الشفتين، وفي وتين القلب.
كانت الأفئدة منطلقة كأنها سهام باتجاه ما يتم توزيعه من طعام، ولكن كان لمشروب الفيمتو المجمد رونق خاص، ورائحة مميزة، وطعم يحرض الصغار على الهجوم المباغت لحظة رفع الأذان، وكم من الأفكار، والخطط تدور في العقول الصغيرة قبل أن يسمح لتناول تلك الكؤوس الحمراء القانية، ولا أعتقد أن واحداً من ذاك الجيل لم يفكر في عملية تسللية تدفع بالتي هي أحسن، ويمد اليد بخفة الكهنة، والمشعوذين وقراء الكف، ويقتنص كأساً بسرية ضالعة بالذكاء، ولكن كيف؟ فالعيون الحمراء تبحلق في المكان كأنها كاميرات مراقبة، وكان الواحد من هؤلاء الكبار، مستعد أن يقطع اليد التي تمتد إلى هاتيك الكؤوس، لذلك كان الصغار يكتفون بالخيال، وهو كفيل بأن يغذي المعدة ولو بصور خرافية، ولما يرفع الأذان ينتظر الصغار بصدور الإذن، وما أنْ يبدأ الكبير في تناول فردة التمر، حتى تهاجم الفئران الصغيرة ما أشقاها، وما أضناها، وبعد أن ترتوي النفس قبل المعدة، يتنفس الصغار الصعداء، ويبدؤون في التلفت يمنة ويسرة، ويحولون الأنظار باتجاه الأطباق الأخرى، وفي هذه الدقائق بدءاً من انتظار الأذان، وحتى بعد أن يبدأ طقوس الإفطار، يخيم صمت مهيب على المائدة، وكل متيم بما يبلل الريق، ويرطب المعدة، بعد يوم أشعل حطب نيرانه في الوجوه، وأصبحت الدقائق تعد كأنها ساعات ولكن بعد الإفطار، وبعد أن تنقشع الغمة، تبدأ العيون تشعشع ببريق الفرح، والإحساس بالانتصار على وسوسة الشيطان، وإغراءاته، وتحريضه على الإفطار قبل الأوان.
وبينما الكبار منهمكون في تداول الرشفات لأكواب الشاي، وفناجين القهوة، يكون الصغار قد انصرفوا إلى انشغالاتهم اليومية، وممارسة نشاطاتهم في اللعب، وقد استردت الأجساد الصغيرة عافيتها، وارتوت سنابل العشب في عروقهم، وفاضت السيولة في أجسادهم، وشعروا بأهمية الصوم، وحلاوة الإفطار بعد يوم ملتهب يتجاوز الاثنتي عشرة ساعة، وهنا تبدأ المشاغبات، وتتحرك آلات السخرية من الأنداد الذين لم يكملوا يومهم الرمضاني بنجاح، وأحياناً قد تشتعل حروب كلامية، تتطور إلا عراك دموي، لأن المفطرين لا يتحملون السخرية، مضافاً إليها تأنيب الضمير، ولذلك كان الهجوم خير وسيلة للدفاع، عندما يسخط المذنبون على الساخرين، وينسى من شرب الفيمتو بعد الظمأ ما أوصاه الكبير من أن الصيام ليس عن الأكل والشرب، بل هو الأهم، هو الامتناع عن الدم، وأن كل من نمَّ تسقط حسناته في طريق معفر بغبار المباهاة، والاستعراض، والاستهزاء بالآخرين.
جميلة تلك المحاكاة، ولكنها عندما تختلط برياح العنف، تبدو قبيحة، واليوم عندما يتم استدعاؤها على صفحات الخيال، تبدو مثل فيلم غرائبي، اللقطات فيه مبهرة، ومستفزة أحياناً.