تسير أنت في الشارع الفسيح، وكأنك تقطع المسافة بين ضفتي المحيط، وتحت الخمار الليلي الأسود تتسلل قطرات الندى الباردة، فتلمس وجهك، فتتذكر زمناً ما كان للندى فيه سكون مختلف على الوجوه، وتحت قاع الأقدام الحافية. فكانت الرمال الباردة، تمسح على الأقدام برفق، وبرونق المشاعر الصافية، ومهارة الحياة العفوية، وتحت ظل تلك الشجرة العملاقة حيث الأضواء تنبعث من مصابيح النيون مثل أشعة نجوم غافية على هدأتها، وكان الصغار ينعمون برائحة الثمرات الصفراء، وهم يتسللون بين الأغصان المتعانقة، ويقطفون اللذة من حنايا السدرة العريقة، وكانت الأمهات يتصايحن، ويزجرن، بمرارة القلوب المرهفة، ويطالعن السماء وهي كقبعة عملاقة تخيم على رؤوس الأطفال، ويهددن بالعقاب، وأحياناً يجذبن بالثواب، وما بين المثير، والمثير الشرطي، ترتفع أصوات كأنها المواء بين الأزقة، وهناك حيث تمتزج أفراح ليالي رمضان، والدعابات، وأحياناً المشاجرات، وقد يحدث الصدام الدموي بين المشاغبين، ولكن كل هذه الجمهرة، تنفض خلال دقائق عندما يحضر الجار المهيب، وهو الرجل الذي قضى العمر في متابعة حشرجات الأزقة، والترصد لمن يثيرون الشغب، أو يعرقلون زيارات أمهاتهم إلى بيوت الجارات، ويدعونهن في لوعة البحث عن فلذات الأكباد، وكان الرجل النبيل، يحجل في مشيته على الرمال الباردة، ويتنحنح، بصوت جهوري ليخيف الصغار، ويرغمهم على العودة إلى أحضان أمهاتهم، وتهدئة خواطرهن. 
عندما تتكاثف حبات الندى على فرش النوم الممدودة على منامات الليل، يشعر الصغار بالرعشة وهم يقلبون أجساداً نحيلة على القطن المبلل، وكان الزمن يطوي أيام الصيام على مهد المشاعر الطفولية، حيث النوم يبدأ في وقت مبكر، ليتسنى للصغار الاستيقاظ وقت السحور، ولهذا كانت الأمهات حريصات على إيواء صغارهن في وقت مبكر، ورغم العناء، والمكابدات جراء الصراع بين من لا يعرف للزمن حدوداً، ولا مصيراً، وبين من كرّسن حياتهنّ في تحديد زوايا الزمن، لمعرفة كم من العمر يحتجن حتى يرسمن صورة زاهية أمام الأزواج، وهذه فطرة نسائية، بينما الصغار، لهؤلاء لم تزل عيونهم تلمع ببصيص الأضواء الليلية، والتي تلهمهم فكرة الفرح من دون محددات زمنية. 
اليوم عندما نستعيد الشريط، وعندما نحاول قراءة العناوين العريضة لزمن ربما انطفأت الكثير من نجومه، إلا أنه لم يزل يحتفظ بقائمة من الصور، والمشاهد، التي تتهشم لها جدران القلب، كلما طافت صورة بجوار القلب، وكلما مرت فراشة عند حياض العمر الذي أصبح اليوم مجرد أعشاش خالية من زقزقة العصافير. ولكن يبقى لرمضان رائحته رغم اختفاء المد البحري؛ لأن العمر يمضي بسنواته، ولكن القلوب تظل تحافظ على حيويتها، فكل منا في داخله شيء ما يزعجه، وكل منا في داخله شيء ما يحرك فيه المياه الراكدة.