- هي أغانٍ تسكننا، وتحضر بحضورها كل الأماني، هي أغانٍ جاءت هكذا، فارضة نفسها على النفس، خالقة جوها الذي لا يمكن للذاكرة أن تنساه أو تنساها أو تغفل عن شهقة الحب حينها أو دمعة العين وقتها أو من كان معك ساعتها، تجرها السنون إلى الوراء سنيناً وسنوات، لكنها إن حضرت، حضرت بجلال الوقت، وهيبة الزمن، وسماحة تلك الوجوه، وبياض القلوب التي لم تكن تعرف الأذى، ويقنعها القليل، وترضيها بسمة خاطفة.
- أغنية «ييه.. دوستي» في فيلم «شعلة» حينما يغنيها الصديقان «دهرميندرا وأمبيتابشان» على دراجة نارية تشبه دراجات الجيش النازي في عهد «هتلر»، هذه الأغنية حينما أسمعها الآن تنساب ذكريات جميلة في سينما «المارية» مفتوحة السقف، وتذكرة بربع دينار بحريني، وطلبة القسم الداخلي يهربون عافدين شبك المدرسة العسكرية الداخلية في معسكر «آل نهيان»، قاطعين تلك المسافة بين كثبان رملية وطرقات غير معبدة، ولا واضحة المعالم، مخترقين «بارهوز» إلى شارع الجوازات إلى شارع المرور إلى شارع «إليكترا» حتى يستقر بهم المطاف بين سينما الخضراء المسقوفة، وسينما المارية المفتوحة، مقندين الرأس بـ «كوب شاي حليب، وخبزتين براتا وصحن بيض مع طماط أو كيما»، ليعيشوا بعدها مع فيلم «شعلة» الذي شاهدوه عشرات المرات، ولا يملون منه، ويفرحون به مثل أي شيء جديد.
- أغنيات عبدالحليم حافظ «زي الهوى» و«موعود» كانتا تصدحان في «سيرك عاكف» المصري في النادي الأهلي الذي هو الآن نادي الوحدة، يومها كنّا طلبة أكثرنا من المتفوقين، لكن كان هناك نوع من فرح الدهشة والاكتشاف وسبر أي شيء جديد، كنّا نحمل الكتب وندفنها، ونعلمها بطابوقة إسمنتية أو بعود خشب لنرجع لها بعد العرض في ذلك السيرك المدهش، والذي يراه أكثرنا لأول مرة، اليوم لا أستطيع أن أسمع تلكما الأغنيتين دون أن تسحباني إلى أجواء السبعينيات في ذلك المكان الجميل بوقته وزمنه وناسه، وتلك المدينة التي ما زالت في القلب صغيرة كابنة لا تحب أن تكبر أبداً.
- أغاني فيروز، لا يمكن أن أسمعها ولا يحضر الصباح الندي من خلال ذاك الراديو الذي لا يفارقني في السبعينيات في أبوظبي أو من خلال جهاز التسجيل الجديد بسماعاته التي تشبه جلسة طفل متعافٍ، بعدها حضرت في صباحات باريس ودمشق وبيروت، تتغير المدن، وحده صوت فيروز لا يتغير، ولا يشبه إلا حاله.
- لا يمكن أن أدخل باريس، وتجرني خطاي إلى «سان ميشيل» أو «الحي اللاتيني» دون أن يطرق أذني ذلك الصوت المبحوح بالتبغ والتعب، صوت متشردة تتبع هواها وإبداعها وإشراقة فنها المختلف، هي أغنية «لا في إن روز» أو الحياة الوردية لـ «إيديث بياف»، وحدها يمكن أن تقودني بلا ضلالة نحو مساءات باريس العابقة بعطرها المخلص، وهمهمات مطرها الذي يأتي باستحياء، مغافلاً الجميع، ووحدها نوافذ البيوت المواربة على الحب والدفء من تسمح له أن يطرقها كعزف «ساكسفون»، وكأنه صديق وحيد لليل، ولظله الذاهب في ذاك السواد البارد، حد أن تغيب تحت جنح غمامة متدثرة أو نجمة هاوية لمستقرها البعيد.
- هناك الكثير من الأغاني التي هزّت الصدر في أوقات الحب والفرح بالحياة، لعلّ أغاني «ميحد» تأتي وحدها كالفتاة العنود مخضبة أطرافها بالحناء، ترضف على وجهها وقايتها الوسمة، تجرّ ثوباً «بو ذايل»، وقضاب برقعها يشفّ عن مبسم له طعم العنب، ومشهد ندف الثلج، تسبقها لأنفك روائح المخمرية، والطيب والعود، وعبارة «وا ييه ما خليت»!