كم زرت سوريا ومدنها ودمشق من بعد، غير أن للزيارة الأولى وقعها الجميل على النفس، وطعمها في الحلق، وكحلها في العين، يومها كان الشغف، وذلك الحب الذي تسربه كتب التاريخ، والقراءات، والبحث عن الانتماء المنهجي، كان شيئاً من فيروز ومسرحياتها الغنائية في معرض دمشق الدولي، وأناشيدها التي تنثر روائح الياسمين الدمشقي على صباحاتنا، كان شيئاً من أساتذتي في المراحل الإعدادية والثانوية الذين أتوا من مدن سوريا المختلفة، وبأيديولوجيات مختلفة، وأرادوا أن يصنعوا ضجيجاً في الرأس، كان شيئاً من الهوى الشامي الذي يقع عليّ برداً وسلاماً، ومحبة كنت ألتمسها في الحارات القديمة، والمفارش والزوايا والتكايا، ودكاكين العطّارين، وحوانيت الورّاقين، وفي الطرقات، في سوق الحميدية، ومقهى الحجاز، وشارع مدحت باشا، في مكتبة الجندي، في النقوش على الصدف والأخشاب، وتلك الحِرف الهاربة إلى أزمنة قديمة حين تجلى البهاء والزهو، وعز ملوك وسلاطين، تلك الشواهد الموزعة على مقابرها التاريخية لأناس خاضوا المعارك، وأبحروا في العلوم والمعرفة، صحابة وأمراء جيوش وخلفاء، شعراء وفنانون وهاربون كثر برسالاتهم سكنوا الجبال البعيدة، حين تحضر الشام، تتداعى الأشياء، وتحضر ألف حكاية وقصة تروى، وتسبح النفس في سُكنتها وسكونها. هكذا في ذاك العمر من الوعي زرتها لأول مرة في أواخر السبعينيات، حين كنا في الصف الأول ثانوي، وكان السفر لنا حينها ضرباً من الفرح والفضول والمتعة، وانفتاحاً على دنيا لم نكن نعرفها، إلا من خلال تلفزيون لا يلتقط المحطات بوضوح، وراديو يصر كثير من الآباء أن لا يشغّلوه إلا أثناء نشرات الأخبار، وكلام قليل من معلم الجغرافيا الذي يصرّ كثيراً على عدد السكان، وكم تبلغ مساحة البلاد، ما بقي كله من قراءات وأسئلة، وأحلام بارتياد الآفاق.
 كنا في تلك الصيفية مجموعة من الأصدقاء وزملاء المدرسة المتفوقين، وكانت تلك الرحلة مكافأة لهذا التفوق، زرنا الأردن قبلها، ودخلناها براً في حافلات أقرب لسيارات الجيش القديمة، يومها رأيت دمشق وحمص وحلب وحماة واللاذقية لأول مرة، وحين أدركنا «كسب»، اعتقدت أنني في أعالي العالم، كان صيفاً غير أن أجسادنا ارتعدت برداً في تلك المرتفعات، وهواء الأشجار التي تناطح السماء، والتي نراها لأول مرة، وكأنها من وحوش الأساطير، لأن أقصى ما كنّا نراه طولاً بين الشجر، العُوّانة من النخيل، غير أنها لا تعادل ربع جذوع تلك الأشجار الباسقة من الصنوبر والحور التي تشعرك بمهابة الغابات المرعبة.
وصلنا يومها حتى الحدود التركية، وطفنا بمدن أخرى، لعلها أجملها «كسب»، والتي استقبلنا فيها الأطفال في مخيمهم الصيفي المختلط كفوج، ربما اعتقدوا في البداية أنه من جهات أفريقيا غير العميقة بتلك الوجوه المسمرة، و«الكشيش» التي تشبه «كِشّة» الواحد منا رمثة قديمة أحرقها العطش أو سئمت من رمضاء الصحراء، ومجاورة شجرة الأشخر الحزينة دائماً، فقط ما أنقذنا قليلاً اللسان العربي، ومعرفة شخصية «غوار الطوشه، وصَحّ النوم وأبو عنتر»، ومثلما اعتقدوا كصغار بأفريقيتنا، اعتقدنا نحن الصغار في البداية أنهم من الإنجليز لحَمَار بشرتهم وتوردها، وتلك العيون الصافية مثل قطرة زيت الزيتون، والشعر الأصهب الذي يميز أكثرهم، غير أن أحداً من مجموعتنا، استدرك الوضع وقال معتقداً أنه الفاهم الوحيد بيننا: «هاي الحُمرة من كثر أكل الطماطا، يسمونها البندوره، شو عرفكم أنتم؟ أنتم بدو هَرَش ما تعرفون التين من العَرش»! وغداً نكمل