آثرت السلامة، ولذت بالسكون مع جارة مقعد الطائرة التي جعلتني شبه مكتَف، شعرت حينها مثلما تدخل فجأة مصعد عمارة وفيه رجل وزوجته، يظل الرجل يناظرك ويعاملك كوزن زائد، والمرأة تعدك عبئاً على تلك المساحة الضيقة، فلا تصدق متى تنزل، لذا دفنت رأسي في الصحف بقراءة غير مركزة، فتململت الجثة السوداء، وشعرت حينها أنها تحسدني ربما على الجلوس بجانب النافذة، وجال بخاطري لو أن الجالسة بجانبي كانت يونانية أو مالطية لمرت الرحلة من دون هذا الضيق من جانبي، ومن دون هذا القلق والتوتر من جانبها، وربما تبادلنا أحاديث طريفة ومفيدة، أما هذه فجالسة تعد أصابعها وتخبئها، معتقدة ربما أنني أنظر إلى يديها كعادة المجتمعات المكبوتة، أشحت بوجهي إلى النافذة، ثم بدأت أقلب المجلات التي كنت أتمنى أن لا تظهر صفحة فيها صورة فنانة فاتنة أو فتاة إعلانات فارعة، لكي لا يزداد ارتباكي وخجلي، والتي كنت أبحث عنها في الأيام الخوالي كنوع من تقاسيم ومقاييس الجمال الإلهي، حتى حينما احتبست المثانة، خجلت أن أستأذن تلبية لنداء الطبيعة، وبقيت أرجئ الموضوع لحين ميسرة، فقلت في نفسي لو أن حظ هذه الأخت الفاضلة كان عاثراً، وجاء مع شخص ممن يعاقرون الصهباء، ويتلذذون بكأس الراح، ورضاب المدام، فما كانت فاعلة؟ وهي غير قادرة على تغيير المقعد، ولا تغيير الجار، فإذا ما كان ذاك الجار إنجليزياً فالشكوى المكتوبة عنده جاهزة ضد الكابتن وطاقمه العامل وضد شركة الطيران وسيسلمها في الحال، مطالباً بالتعويض والضرر النفسي الذي لحق به، أما إن كان الجار أميركياً، فأقل كلمة ممكن أن يسمعها لها أنه دافع مالاً بقدر ما هي دفعت، وعليها أن تنتبه لشغلها، ولا تتدخل في شغله، وسيضع رِجلاً فوق رجل ولن يبالي، بذاك الحذاء ذي الجلد البقري الذي لا ينقطع، أما وأن الجار عربي، ومن النوع الخجول جداً، وممن يأكلون عشاءهم، فستركب على ظهره، وستركبه الحق حتى يسمع المضيفة بالنيابة عن قبطان الطائرة تهنئ الركاب بسلامة الوصول، ظللت في ذلك الوضع الانتباهي الكشافي أعد الساعات، وكل مرة يعنّ عليّ خاطرٌ أنها تعرفني. 
سمعت أغاني وتنقلت بين القنوات، وجافيت النوم، لأن النوم سلطان، وخفت إن غفت عيناي أن أتقلب، وألوي عليها أو أهذي بكلام، أو أن تسمع شخيراً متقطعاً لا يسرها، فنفتضح في بنت العرب، عدت ساعات حتى تحجرت عيناي، متمنياً أن تغط عينها هي أو تتلفع ببطانيتها، لكن هيهات، ما زالت بالوضعية نفسها تقرأ في كُتَيب بحجم «الحصن الحصين» أو «حرز الجوشن». عدت أنا للفيلم القديم والذي كنت أتابعه بدون شغف أو أي دهشة، فقد كان تسجيلياً عن ارتياد الآفاق، حتى شهية العشاء قطعتها، فكلما سألتها المضيفة عن الأكل أو الشرب، كله تقول: لا.. لا، فعافت نفسي الأكل، لأن من الأمور التي تضيق بها النفس أن تأكل وواحد جالس بجنبك يحسب أنفاسك، ويعد الطَعام، ويسمع طقطة فمك بالأكل، تماماً مثلما أحد يقضم تفاحة بتلك القرمشة المزعجة، وأنت تناظره تريد الانقضاض عليه ليسكت أو يبتعد.
كنت أردد من باب الحيلة بعض الأذكار والدعاء مما تحفظ الذاكرة بعد ما نسيت كُتيب أدعية السفر بصوت شبه مسموع، لعل وعسى أجد نقطة تقاطع بيني وبينها، غير أن الصمت أطل برأسه من جديد، وغاب كل واحد منا في عالمه حتى الوصول بسلامة الله وحفظه، وأنا أردد في داخلي بعد نَفَس عميق وطويل: والله إلا خسارة هـ «الاب كريد، أمحق من دراي فلايت»!