إذا ما كان تقرير منظمة الصحة العالمية صحيحاً، ولا نشك في ذلك، لأنه لا يوجد في هذه الأيام لا شغل ولا جائحة ولا يحزنون، و«صاحبنا» الذي تعرفونه من زمان ما ظهر يكح في وجوهنا، التقرير يقول بأن هناك أكثر من 300 مليون إنسان يعانون من الاكتئاب في العالم، وآمل ألا يكون نصفهم من العرب الأشاوس، لأنهم الوحيدون الذين يكبتون ما بهم، ويخفون ما يوجعهم، ولا يعبِّرون أو ينفسون عما يعتري صدورهم، وغير ذلك يعد الاكتئاب من العيب والفضيحة، وماذا سيقول الأهل عن فلانة أو يقول الجيران عن فلان إن ذهب لطبيب نفسي أو محلل نفساني يشكو إليه وجعاً داخلياً، لا يعرف ما هو؟ وممّ يصيب؟ لأن الأمراض النفسية غير مرئية، والتي كانت في الزمن الغابر تنسب للجن، وسكان الأراضي، أو أمور غيبية تختص بالسحر والعين والحسد، وهي اليوم أمراض مكانها العيادات والمصحات والعلاجات الطبية، لا أماكن تصريفها المخدرات الوقتية أو الشعوذات الشعبية، لكن أن تذهب برجلك إلى عيادة الطب النفسي، فهي من النقائص في عالمنا العربي، لأنها من الأمور التي هي أقرب للجنون أو هكذا يحب الناس أن ينعتوا عيادات الطب النفسي، خاصة أن الصورة النمطية للطبيب النفسي عندنا، والتي كان يجسدها الممثل الراحل «د. أحمد خليل»، شعر منكوش وواقف، وصراخ، وعدم تركيز، وشخصية خفيفة مهتزة، فلا تعرف المريض من الطبيب.
أكثر من 300 مليون مكتئب حول العالم، هؤلاء لو كانوا في بلد واحد، فيكفي أن يزفر كل واحدة منهم زفرة ضيق الصدر تلك، لتحترق البلاد بغاباتها، والإضرار بالبيئة بالإخلال بالتوازن بين الأوكسجين وثاني أكسيد الكربون في الطبيعة، ويمكن أن يصيبوا بالعدوى السلبية أعداداً أخرى يتأرجحون بين الملل والوحدة والإفلاس والكآبة وعدم الرضا عن النفس.
لا شك أن الاكتئاب مرض العصر بامتياز، جلبته المدنية المتسارعة، أما ذاك الراعي في البريّة أو حداد القرية أو ذاك الفلاح مع زوجته الذين يبكرون منذ الفجر يقرؤون نشيد الأرض والماء والزرع، ويتفيؤون ظلال الأشجار، فلا يعرفون مكاناً تستوطن فيه الكآبة، ولا الاكتئاب يطرق أبوابهم، كل الأرض مشاع، ولا شيء يسد الأفق، والناس تلتحف السماء، وما في الجيب من قليل يغني ويكفي، وما ينقصك يكمله لك جارك.
اليوم منذ إن قطن الإنسان في الشقق المعلقة، والتي في مجملها تشبه علب الكبريت، والسقف يكاد يحك قمة الرأس، ولا متنفس للأضلع من تقارب الجدران، وطغيان لون الأسمنت الذي يسرق نظر العيون، ولا جار يشعر بالسهر والحمى، بات الإنسان يتوجع من أمور كثيرة، أقلها أو أكثرها اللهاث وراء كل شيء في الدنيا، وإلا فاته، أصبح الإنسان مطارداً من الآخرين، ومن نفسه، ومن ظله، ومن أشباح الخوف الكثيرة التي تتعلق بالوظيفة والمعاش والأولاد والمستقبل والآخرين المتربصين.. غابت القناعة، فحضرت الكآبة، تلك التي تشبه سحابة رمادية صعب أن تنقشع دون رضا من النفس، وقناعة تجعل كل الأشياء تفنى، ولا يفنى الكنز.