في شبابنا كنا نتمنى أن نصادف ليلاً امرأة جميلة أو أن يرسلها الحظ لنا لتجلس بجانبنا في الطائرة، ونتجهم حين يعاندنا الحظ ويرسل واحداً من عطران الشوارب، كانت تلك أمنيات الأيام الغابرة زمن الجاهلية الأولى، غير أنه في مرة أسعفني الحظ، وما كنت أعتقد أنه أتعسني حين جالستني امرأة تتشح بالسواد، همست همساً بالسلام، حين همت بالقعود، ورددت التحية متحمساً بأحسن منها، عم الصمت، محاولاً أن ألتمس أي رائحة عطر تنبعث منها، لقيادة دفة الحوار، لكنني لمحتها بطرف عين تقرأ كتاب أدعية السفر، فأخرست في داخلي أي مغامرة صوب امرأة يفضحها عطرها.
جلست أعد أنفاسي، وأتحاشى كثرة الحركة، داعياً ألا تأتيني عطسة مفاجئة أزيّغ حمامة فؤادها، متأملاً كيف ستنقضي هذه الساعات السبع العجاف، وليس في اليد مصحف، ولا كتاب أدعية المسافر المسلم. 
قلت سأدّعي أنني لبناني، «بلكي بتنفرج شوية»! وتطَرّي حالة التشنج التي نعيش ساعاتها الطوال كمواطني بلد واحد، فتذكرت أن لا سلسلة ذهب في العنق، ولا «بلاك» في اليد، ولا نظارة شمسية تستقر على الشعر اللامع بالجل، ثم الشيفة ليست شيفة لبناني عنده «بزنيس» فغيرت رأيي، وتحيدت أن فاجأتني بسؤال عن المنبت، ما لي غير الصحراء العربية الكبرى، ما شي لي زبنة غير عند إخواننا الليبيين، السحنة تتشابه واللهجة تتقارب، ما عليك إلا تزويد وتيرة الصوت، مع الإدغام، وتجعل نفسك دائماً مش فاضي، تنفست الصعداء، حتى إنها شعرت بتغير حصل في تجاويف صدر الجار غير المرغوب فيه من جانبها على الأقل، وشعرت أنا بسخونة ترعى العنق، ولم أجسر أن ألتفت أو أرفع عيني، لأنها كانت تشبرني أو تريد أن تتأكد من نياتي المبطنة، فقلت في داخلي لعلني تحركت ولامست أطرافي أطرافها من غير ما أشعر، فترجمتها مباشرة إلى فعل مناف للحياء، فازداد لهيب عنقي، وكادت رقبتي أن تتصبب عرقاً بارداً، متخوفاً من تلك الصرخة النسائية التي تسكن في صدر الأنثى، ولا تعرف متى تطلقها؟ وعادة تكون على سوء فهم أو خطأ غير مقصود، وكثيراً بدعوى جذب الانتباه، فقلت لو صرخت هذه الآدمية المتشحة بالسواد، وكانت هي على خطأ، وأنا على صواب، فلن يصدقني أحد، ولو كنت أحد أنجب تلاميذ الأزهر الشريف، وحتى لو أخرجت مصحفي ومسباحي، باطّاً نفسي بأغلظ الأيمان، وأنني مثال للزوج المثالي، الملتزم، وأنني من غير أولي الإربة من الرجال، فلن تجد من تسول له نفسه تصديقك من الجمع الغفير الذين أول ما تبادر إلى أذهانهم فعل الحرام! أو تخفيفاً مثلما يظهر في الصحف خدش الحياء في مكان عام! 
بعد تلك الوضعية من الجلوس الإجباري، على كرسي الإعدام الذي دفعت قيمته مالاً، ونقاط المسافر المجمّعة من أجل أن أحظى بدرجة سفر عليا، ومحاولة الظهور والتظاهر بأنني طيب ومسالم، وعلى خلق، ومن أنصار المرأة، ومن المدافعين عن حقوقها، والمنافحين من أجل تحررها، وأميل لأفكار حزب الخُضر، لعل وعسى يرضي ذلك الجارة الغضوب، ولما عدت الدقائق من دون أن تلطم بذاك الصوت، ظللت متوجساً أن تخرج منها كلمة نابية، أقلها: «ضك عني هناك يا الخايس»! طبعاً لن أستطيع أن أرد عليها: «خاست ريحتك»! لأن التاريخ لم يذكر لنا مرة أن أي تنازع، وتلاسن حدث بين رجل وامرأة، وعلى ملأ من الناس، وكان الرابح فيه الرجل.. وغداً نكمل.