بتاريخ 17 نوفمبر الجاري، اُختتم معرض كتاب الشارقة الذي استعصت عليّ زيارته بسبب ألم الظهر اللعين، لكن بالنسبة لي كمتأملة توغل في التفاصيل، وتهوى التحديق في المشهد الواقعي للوجود وتفكيكه، بغية إعادة اكتشافه وتركيبه وفق رؤية معرفية تستند إلى الرغبة في البحث عن المغاير والمتجدد، ستبدو لي معارض الكتاب مدخلاً مهماً لمعرفة سوية العلاقة أو اختلالها بين الإنسان والكتاب، بصفته مصدر المعرفة وتجسدها وأساس الارتقاء والتحضر والحكمة الإنسانية، إذ ما من مجتمع أو فرد يرتقي في مدارج الإبداع بتنوعه دون اهتمام جاد وجذري بالكتابة والكتاب والكاتب، فهي الأوتاد الثلاثة التي تنهض عليها خيمة السلوك الحضاري.
إن أي فعل يحتفي بالكتاب ويهمش الكتابة كسقف أعلى للحرية الإنسانية، والكاتب كمنتج ومبدع لهما، هو فعل يخل بالمفهوم الجوهري للمعرفة، ويجعل من السلوك الحضاري سلوكاً أعرج متعثراً لا يؤدي إلا إلى سير بطيء أو مراوحة في الزمان ذاته، والواقع ذاته. ومن هذا المنظور نستطيع أن نقيم الجهود المخلصة التي تنهض بها معارض الكتاب في دولتنا الحبيبة، للاحتفاء بالكتاب، نشراً وترويجاً، عبر المعارض السنوية التي تتحول إلى تظاهرة ثقافية تخترق مهرجانات السوق، وتؤكد حضور الثقافة كضرورة قصوى لتطور الحياة. ولأن الكمال لله وحده، فإن السعي لإطلاق حرية الكتابة من سقوف المقنن والمحدود، وضمان الطمأنينة والأمن وكرامة العيش والدعم للكاتب، تطلق الروح المبدع من عقال الجهل واليأس، وتفتح مغاليق الأمل في غد أكثر بهاء وارتقاء. إن معارض الكتاب وأهميتها، وما تحتويه من أنشطة متفرعة متجانسة تصب كلها في غاية السعي لتسويق المعارف المتنوعة، التي يحتاج إليها الإنسان لتطوير حياته.
وتكمن في إعادة الاعتبار إلى سوق الكتاب من جهة، وقيمة المعرفة والثقافة في مسيرة الحضارة، وتجعل من الكتاب في حياة الفرد ضرورة تشبه ضرورات العيش الأخرى، ولأني من أولئك الذين وهبهم الله نعمة احترام كل ما يتصل بحياة الإنسان وسعادته. هذه السعادة التي صنفها الفيلسوف «أبو نصر الفارابي» (بالوعي والإدراك الذي يوصل الإنسان إلى الفضيلة)، والذي لا يكتسبه الإنسان إلا بالقراءة في أي كتاب يحتوي أية معرفة، علمية كانت أو فلسفية أو أدبية، وبكل تنوعها من خلال معارض الكتاب. ففي معارض الكتاب ينكشف لنا كم هي الأشياء والأنشطة هائلة الاتساع والتعدد التي يمارسها الإنسان ويبتكرها، ويرتبط بها وينتهجها في مسيرة حياته. معارف لا حصر لها في الكتب التي تصطف على رفوف أجنحة المعارض. وكلها تحمل قيمتها في ما يتصل بحاجة الإنسان إليها وتعدد اهتماماته وأذواقه وغاياته.