بدأ يظهر أول الصدام الحقيقي بين الذكاء الاصطناعي والإنسان في مجال العمل، والتخصص المهني، وهو أمر لم يخفه المطورون لهذا الذكاء الاصطناعي بأنه سيكون المهدد الحقيقي لكثير من الوظائف التي يشغلها الإنسان الآن، ولن يكتفي الذكاء الاصطناعي بالاستبدال الجزئي، ولكن سيكون بالإحلال الكامل، فالمحطة التي يعمل فيها عشرون عاملاً، يكفيها من «الروبوتات» خمسة فقط، ومن دون مشكلات وعطلات وأعطال، وتأمين صحي ومواصلات وسكن وأجور شهرية، حينها كان المتفائلون يرون ذلك بعيداً ومستحيلاً، أما المتشائمون فكانوا يرونه قريباً ووشيكاً، وهذا ما يبدو عليه الوضع، فقد حدث ذلك الصدام الأولي في العديد من بلدان العالم، ومن خلال شركات كبرى، لم تنفع فيه التظاهرات والاحتجاجات وحقوق الإنسان، لكن ما حدث في بولندا الأسبوع المنصرم، حين استبدلت إذاعة كراكوف كل طاقم الصحفيين والمذيعين الذين ينتمون إلى بني آدم بصحفيين ومذيعين آليين، يعد الأول من نوعه في مهاجمة مهنة إعلامية كانوا يحسبونها آخر القلاع الساقطة، المشكلة أن «الروبوتات» تبلي بلاء حسناً في هذا المجال الإعلامي، وتكاد تتفوق على ذلك الإذاعي القديم الذي ملّ منه كرسيه، فقد ظهر مقدم آلي في تلك الإذاعة التي أشعلت الصدام حول أداء الذكاء الاصطناعي، ومقارنته بأداء الإنسان المهني أو الذكاء البشري، فكانت مقابلة حية ومسلية، وبصوت يحاكي صوت الشاعرة البولندية الحائزة جائزة نوبل للآداب «فيسوافا شيمبوريسكا» عام 2012، كانت مقابلة متفاعلة، حظيت باستماع ومتابعة من الجمهور الجديد، والمتشوق للأشياء الجديدة والثورية في المهن التقليدية.
والدور آتٍ على محطات التلفزيون، فقد بدأت الصين تجربة المذيعين والمقدمات التلفزيونيات الآليين بدلاً من المذيعات والمقدمين من بني جلدتنا، والدور سيصل لمحطاتنا العربية، يعني ما في داعي لرطل من المكياج على الوجه قبل الظهور، ولا ذلك الاستعراض الأنثوي، وهي تتحدث عن قضية سياسية واقتصادية مهمة، سيختفي ذاك المذيع الذي به غيظ تاريخي على أهل أهله، وينفث دخانه في وجوه السادة المشاهدين الكرام أو ذاك المذيع الذي إن تحدث تشعر أن تصدعاً في سماكة طبقات الأرض الجوفية قد حدث، لا داعي لاستعراض تلك الملابس البرّاقة وكميات الذهب والمجوهرات التي تُلهي الجمهور عن الغاية من الرسالة الإعلامية.
 شركة مثل «آي. بي. إم»، والتي موظفوها يعدون بمئات الألوف، تستغني عن ثلثهم في الخطوة الأولى من أجل الذكاء الاصطناعي القادم بكل قوة وحرفيّة، وهناك مطاعم عالمية ومشهورة بدأت تدخل الروبوت الآلي كجزء من الترفيه في البداية، ومن ثم سيحلّ مكان ذلك النادل الذي أفنى حياته وهو ينحني للزبائن، خاصة المهمين منهم من الذين أيديهم طلقة بالسخاء على نوعية الخدمة، والذي يكلف المطعم فقط غسل وكيّ بدله السوداء مبلغاً لا بأس به، إضافة لمبالغ نهاية الخدمة الطويلة.
إذاً أعتقد أن المسبب الرئيس للإبدال أو الإحلال بين الذكاء البشري والذكاء الاصطناعي هو رأس المال، وحسابات الكلفة، وساعات العمل وتحقيق الربح، والتخفيف من التوتر والمزاج الإنساني.. بعدها ستجر السبحة، ولن يظل في الساحة إلا الذكاء الاصطناعي يلعب وحده فيها، والذكاء البشري يملأ مقاعد المتفرجين!