في آخر جناحيها شمعة مذهلة، ترف في السماء، تومض في الهواء الطلق، أيقظت صحو الفرح، تهيم بلحظات المسافر إلى داره، لم يعتد الغياب الطويل، شهور مضت على وتيرة مشتعلة من البهاء النفسي، وألق الروح، فحانت لحظات اقتباس من المدن المشوقة وداعها، سجال الترحال، لا ترى إلا وجوهاً بشوشة على عتبات المطار، ملهمة بالسكينة، شرود أذهان قبيل السفر، تفر بالوقت تنهيدات عميقة، تحاذر وتهمس وتحتدم الأشياء.
طائرة ضخمة، تصعد السماء في هدوء، تتسلق الغيوم، تتوارى خلفها، مدارات في الذاكرة، تشق عنان السماء، تفرد أجنحتها بعيداً، تقتضي أن نمكث فيها الساعات الطوال، أقصاها ست عشرة ساعة، لنقضي وقتنا في عشها الساحر الحالم، رحلة سلسة المسار، لا تفضي باهتزاز من جراء مطبات هوائية محتملة، أي معاناة تمتصها في مسارها اللطيف، قليل من الوقت قد قضى منذ لحظة الصعود، حتى أدركتنا ضيافة العشاء، لذة الطعام الشهي تنتهي بشيء من ارتشاف القهوة والشاي.
إيقاع زمن المسافر بالطائرة يجاري طقوس السماء، يحتم مواعيد تنبذ عشوائية الوقت، ضيافة معتادة، ألبسونا ألبسة قطنية مفادها بأن وقت النوم قد حان، أحالوا المقاعد إلى أسرَّة بفرش أنيق، وخفت الضوء حتى أحيلت الكابينة إلى غرفة نوم شاسعة، ما عدا بار القهوة، دائري الشكل في آخر الكابينة، يلجأ إليه من هجروا طقوس النوم.
كان أقصى همي النوم، فبحثت عن كتاب أقرأ فصوله، وأرجئ تعبي في معلقة شعرية أو رواية تؤنسني أمام مشهد استرخاء خاسر. النوم آت، يداهم جفوني، يحاول إيقاعي في شراكه، قاومت دون جدوى، فذهبت إلى بار القهوة، أعيش لحظة صمت مريبة، وعدت أدراجي بخطوات حذرة؛ حتى لا أخدش أحلام من ناموا مبكراً في غفلة الزمن.
ألزمت بطقوس الطائرة، وخدرت بهدوء، وخبوت في سريري، دون شعور، فجاء من جاء من طاقم الضيافة وألحفني بغطاءات دافئة، وسررت في نفسي، وكادت أحلام السماء تتلألأ جميلة وممتعة ومكسوة بشيء من غياهب الروح.
كان يقال سابقاً بأن فتنة الأرض هي السماء، حين ننظر إلى غيومها ونجومها اللامعة، وما إن تطل من السماء حتى ترى احتفاء بالحياة الرحبة، فالسماء فتنة الحياة والحب ومسارات الطائرات الضخمة العملاقة، تحلق عالياً بطقوس متفردة في فضاء جميل، قراءة وارتشاف القهوة، وتوهج تباشير الشوق ولهفة الهبوط في أحضان الدار.