في طريقي لزيارة والدة إحدى صديقاتي فتحت راديو السيارة فإذا بالسيدة فيروز كالماء تتخلل الوجدان بكلمات الشاعر سعيد عقل، وما علق في ذهني من سائر الأبيات المعززة للجنين قوله «أصواتُ أصحابي وعَينَاها وَوَعدُ غَدٍ يُتَاحُ/ كلُّ الذينَ أحبِّهُمْ نَهَبُوا رُقَادِيَ واستراحوا»، ولا أزيد عليكم أوقفت سيارتي على كتف الطريق عله يربت عليّ، وبكيت بكاء طفلٍ صغير أبكاه ما أبكاه.
السيدة التي أزورها بمقام والدتي وقد أكرمها الله بالعيش وتنشئة أبنائها في الإمارات. وتربى جيل الأبناء والأحفاد بقيمٍ تعكس جمال الإمارات وحسن خلق أهلها والموروث الذي آل إليهم من قيم زرعها المؤسس الباني ونهجه الذي يسير عليه أبناؤه الكرام. الملكة أصيلة، سيدة محبوبة لها ابتسامة تسوى بلاد وصوت خافت عودتني الاستماع عليه عندما تتصل لتقول لي: «حبيت أتطمن عليك»، حتى أصبحت تلك العبارة جزءاً لا يتجزأ من ذاكرة كل من يعرفها. تجود «أم علي» بهدايا أغلبها عطور ونقود معروفة فئاتها في الأعياد الدينية ورأس السنة وذكرى الميلاد. يدها مبسوطة لكل من تعرفهم والعطاء على قد الحال إلا أنه يبقى عطاء.
أكملت طريقي لمنطقة شخبوط الطبية، وسرت أبحث عن المبنى الذي ترقد فيه السيدة حتى سمعت نداء من خلفي: «مدام، تفضلي» خلف درزنين دلال القهوة والشاي السليماني والكرك تقف شابة من الجنسية الآسيوية أكسبها وجودها في ذلك الموقع مهارة اللغة العربية حتى أصبحت متمرسة في اللهجة الإماراتية أيضاً. مدت يدها تقدم لي فنجاناً من القهوة وتمرة مغلفة في غطاء بلاستيكي منفرد. تناولت التمرة قدام الفنيال واكتفيت بأن هزيته ثم عفصته وسرت أبحث عن مكانٍ لإعادة تدويره قالت: «أزيدك مدام» فقلت لها: «أغناك الله.. غنمتي».
ركبت المصعد وكل من يقابلني يسلم علي ويسألني عن حالي وهناك من يمسك بباب المصعد حتى تركته في طريقٍ إلى الغرفة. وجدت الوالدة يبرق وجهها أملاً تنظر إلي بشوقٍ وعاد في أذني ما كانت تردده لي دائماً: «والله أني أحبك من كل قلبي»، لا صوت أتٍ مجرد ابتسامة ونظرة حائرة تنوع تفسيرها في ذهني فهي تقع بين عتاب المُحب وقبول الواقع!
بعد قليل جاء الطاقم الطبي فأجروا مسحاً كاملاً لحالتها الصحية وللغرفة التي جهزوها فوق ما تحتويه من معدات وأدوات. دقائق معدودة وجاءت السيدة التي توزع الوجبات على الغرفة وجبة للمريضة وأخرى للمرافق. إلى هنا وأنا أراقب كل ما مررت به من مواقف وخدمات وسلوكيات لا نجدها في أي بقعة من بقاع العالم.
للعارفين أقول: قيم الاحترام، التعايش، المساواة، مبدأ السنع وتقديم القهوة وأن يعاين المسافر خيراً قبل معاودة المرضى، وجميع التفاصيل التي تجعل من الحياة والعيش في ظل قيادة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله ورعاه، تجربة إنسانية نتمنى أن تتكرر في العالم لتسوده المودة ويعمه السلام والأمان والجمال.