بعض المدن الكبرى حول العالم تظهر فيها بعض من حالات التشرد، حيث رمى العوز البعض على عتبات أرصفة الشوارع، حتى غدوا حالات محزنة، ملأها الصمت أمام الملأ، حالات تعكس التردي واليأس، والإحباط الاجتماعي والنفسي، والاغتراب الوجودي، ومعاناتهم تنم عن مستوى معيشي متدنٍ، وملاذهم للنسيان وحصار الضجيج حولهم، وزواياهم هي مساكنهم.
تعكس بعض هذه المدن تاريخها وعراقتها، وتتناسى عالمها المخبأ الذي لا تعكسه مرايا الحياة، وتزخرف وجودها بألوان الطيف، وتتناسى ما تزخر به من هذا الكم من المشردين الذين سلبتهم الحياة إنسانيتهم وكرامتهم وعصفت بأحلامهم، وتركتهم لعذابات الشتات ومحن الإقصاء والشقاء.
لا بد من أنها من حالات الإخفاق الحضاري والإنساني مثل كل الإخفاقات في زمن يلوذ بهم بعيداً عن رتم الحياة، جاثمين على نحو من الصمت المريب، وإغماض أعينهم المتعبة، لا يشعرون بالمارة، يصعب أن ترى وجوهم المختبئة تحت أكوام المرميات، يحتموا بها من وطأة الرياح والبرد القارس، كي تقيهم من أذى محدق بهم أينما كان هذا المخبّأ الذي ألفته حياتهم.
تكاد أن تختفي أجسادهم النحيلة بين زوايا الطرقات والأرصفة، أجساد مزقتها الجراح واعترت أطرافها قسوة، تنتعل الممرات خطواتهم، كلما نهضوا من جوع عادوا لجوع جديد، مهما بحثوا عما يسد الرمق، يعودون إلى الصبر الذي يأخذهم  نحو عذابات السؤال مرة أخرى، وحجب آخر نحو إقصاءات من مكونهم البشري، الذي يحملهم من التشرد إلى النفي والجوع.
منذ عشرات السنوات وهم مغتربون ومسحوقون في مجتمعاتهم، لا عناوين تذكر لهم، هرمت وجوههم في الطرقات المنسية والتائهة، لا قلوب تنظر لهم وقد طمست الحياة نبضهم، مخيلة أشباح على أعتاب الزمن، أي غربة أشد من أن تنسج شباكها حول أجساد هشة، تجرّ دهشتها تحت مجهر الحياة، أجساد مهملة وهامدة لا حراك لها، فهم في غيبوبة مزمنة، لولا إضاءة أعمدة الإنارة التي  تضيء حولهم دهاليزها، وأنوار خفقت بهم، تمر عليهم سيارات الطوارئ وسيارات الإسعاف وتتجاوز سرعتها انتباهاً لهم، ربما يجرون خطواتهم نحو المقاهي إذا سمحت لهم من أجل شحن هواتفهم لتصل ابتسامتهم أمام قائمة الطعام دون تذوق، دون ارتشاف قهوة على مذاق، وكيف لها رائحة تحيرهم، ولهم مكان مغيب ينتظرهم، إلا امرأة عجوز، محيرة الطباع، يشاهدها الناس تجلس على مقهى، في أناقة قديمة ومنتهية الزمن، وفي وقار لافت ترتشف قهوتها الصباحية من المقهى، سائلة المارة نقوداً، ولو شيئاً يسيراً تحتفظ به، وإذا ما حصلت منهم على الطعام، تستلذ منه بحبات البسكويت، وتهدي بقيته إلى إنسان مشرد قد يمر بجانبها مصادفة.