تراها «وصلت الحلقة البطان» على رأي المثل، يعني الذكاء الصناعي ما «يتصلط» إلا على كتّاب العمود الصحفي اليومي، هؤلاء الدروايش الطيبين في سلسلة اختراعه وتطوره وهجومه المتسارع على الإنسان وعمله المنهك والمضني، الأمر الذي يشكل تهديداً للكهنة من كتّاب الأعمدة اليومية الذين يتبعون فنجان القهوة بأخيه، والسيجارة تلو أختها، ويُعيّشون المنزل والأولاد في صمت وخوف مطبق، هذا الاختراع بث رعباً وظيفياً وضرراً بمصالحهم المرسلة، يقول لك بس اقترح على الكاتب الرقمي أي موضوع، لا بيحك جبهته، ولا بيتحرك عنده القولون، ولا بيقول لك: ما عندي مزاج الحين! هي دقائق ويكون الموضوع جاهزاً، منقطاً ومصححاً لغوياً ونحوياً، قد يكون في البداية الموضوع صلباً أشبه بلوح الصابون، ولكن مع الأيام ما يحتاج لعاطفة فيّاضة، سيذر عليه كلمات تستجلب الدمع والبكاء، وما يحرك الأوجاع والأشجان سيأتي بكلمات ترتقي للموقف، وما يحتاج تحريك الخواصر، سينتقي له كلمات من الظرافة والتندر والضحك، وبلا مِنّة كاتب يوجع الرأس، ويُعلّ القلب بشروطه واشتراطاته ومزاجه المتقلب.
الثورة في الذكاء الصناعي مذهلة، وقد تتخطى كل الحدود، ففي التجارب الأولى، جعلوا من ذلك الحاسب مؤلفاً موسيقياً، سطا على معزوفات «موزارت»، وقلدها، ثم تخطاها، وأشاعوا أن هناك قطعة موسيقية قديمة، وجدت بالصدفة للموسيقار «موزارت»، دعوا النقاد الموسيقيين أن يتفحصوها، ويقيمونها، ويقارنوا بينها وبين مقطوعات «موزارت»، فكان جوابهم الفيصل أن هذه القطعة تخص بدايات التأليف الموسيقي عند «موزارت»، وربما ألفها في مرحلة مبكرة من حياته، الغريب أنهم جلبوا مقطوعات لموسيقيين مختلفين واستطاع الحاسوب بذكائه الاصطناعي أن يميزها ويفندها، وينسبها لمؤلفها الصحيح بعكس كهنة الموسيقى الحقيقيين «قوم بو شعر شايب وثائر».
لاعب الشطرنج الروسي «كسباروف»، هزم الذكاء الصناعي لأول مرة، لكن وحين استوعب الكمبيوتر تفكير، وطريقة لعب «كسباروف» هزمه في الجولة الثانية، وفي اليابان أعلنوا عن مسابقة في الشعر، فتلقوا آلاف القصائد من شعراء اليابان، وبعد الفرز والترجيح أعلنوا عن فوز شاعر ياباني شاب، فاستبشرت اليابان كلها بولادة شاعر في القبيلة اليابانية، لكن تلك الفرحة لم تتم حين أعلن الفائز أن من نظم القصيدة هو ذاك الكمبيوتر الذي لم يكن بحاجة إلى إلهام ومحفز، ودون أن يتأثر بالبيئة المحيطة بالشاعر، ولا دعته الضرورة أن يسهر عند نافذة الحبيبة، ولا يقف على الأطلال متذكراً دارساً والرقيم، واستهلال الدمع المدرار.
الذكاء الصناعي سيهدد كل شيء، ولن تجد بين الحواسيب من هو عاطل عن العمل، ولا مستجدياً للقطاع الخاص، وسيضرب بعرض الحائط شروط التوظيف الوهمي، مثل: دائرة بحاجة إلى موظف خريج جامعة، لديه خبرة عشر سنوات، قضاها في أعمال البر والتقوى، ويشترط في المتقدم أن لا يزيد عمره عن خمسة وعشرين عاماً! أو كما حدث معي، تقدمت مرة بكل تلك الخبرة والشهادات، وأكيد المحسوبية مع شهادة حُسن سيرة وسلوك لوظيفة معروضة إليكترونياً، فصنفني الحاسوب المهروم لوظيفة ضابط أمن مبيعات! ما قلت لكم: تراها وصلت الحلقة البطان.