جابتني الصدف وحدها إلى مكان حديث وعصري، وكله أضواء مشتعلة وراقصة، بحيث شعرت بالرهبة مباشرة دون أدنى سبب، ففي مثل تلك الأماكن تشعر أنك غلط في مكان هو صح، يعني أول سؤال تطرحه على نفسك: أين أنا من هذا، ومن الدنيا التي تغيرت، فلا عادت تعرفنا، ولا نحن نتعرف عليها؟ محل أبهة، وحين أدخل محلاً راقياً وأبهة يدور في رأسي تساؤل وحيد لا غيره، هل أكلهم شهي، وهل يشبع؟ خاصة أن الواحد طوال الوقت يظل محترماً، ويحاول أن يكون متحضراً، ويكثر من التبجيل والتقدير على «أدناة الدون»، وتكثر عنده كلمات الشكر، وأدوات «الإتيكيت»، مثل الهضم البطيء، ومسح أطراف الفم بمنديل أبيض يحرص على أن لا يتسخ، ويتمنى لو يعيده لمحله، مكمماً مكفناً، ولا تضيع «كوية ترتيبه»، بصراحة.. مكان خيالي على رأي «الفاشينيستات» الموقرات أو «محل يخبل.. واو.. يهبل»! ولأني موديل قديم، ومتقاعد، ولا أعرف أن أفرق بين ما هو نافع في هذه الحياة وما هو ضار، خاصة الأشياء الكهربائية والإلكترونية، لأنني مثل كثيرين نخاف أن نغلط، ونخاف أن يقول عنا الناس متأخرين، دخلت مع الداخلين بحيث لم أعرف الذي دخلته مطعماً أو مرقصاً أو مشرباً أو هو سيرك ليلي، لأن كل شيء فيه، وقابل لكل التأويلات، وكل شيء فيه غال بالطبع، وغير قابل للنقاش.
ولأن الصدف تأتي تباعاً، لذا جابني حظي وجلست خلف وحدة «دي. جي» ولا أعرف الفرق بين المذكر والمؤنث في التسمية الإنجليزية، ولا أعرف لها جذراً في اللغة العربية لكي نستنبط منها التصاريف والأفعال والتسميات، ما حظ المذكر منها، وما بخت المؤنث، أقول ذلك لأن اللغة هي دائماً التي تبسط الأمور، وتشرح ما في الصدور، وتجلي الغريب من الأمور، طبعاً من الوهلة الأولى، كان كل لباس الـ «دي. جي» من «زارا»، يعني شغل فانيلة واسعة، مثل «الخِرِي»، ومعلقة بخيوط في الظهر، وساعة إلكترونية بالتأكيد، وبعد كل ربع ساعة تروح تدوخ «سيجارة إلكترونية» وترجع، المهم كنت أراقب ذلك الكمبيوتر الصغير الذي تستخدمه، والذي تشبه أسهمه أسهم مواقع الأسهم المالية والبورصات، وهي تتنقل بين تلك الأسطوانات الغنائية بدقة وحرفية، وتقول في نفسك: ليت تلك البنت النحيفة التي كلها عظم، والتي بتلك الحرفية والمهارة، امتهنت شغلة في بنك أو في سوق الأسهم، يمكن ضبطت معها، بدل هالبهدلة، ولبس فانيلات مشجعي الأندية، وقيادة سيارة صغيرة بالأقساط المريحة، واستئجار «استوديو» في عمارة قديمة، ولكن لما تقاطر عليها المعجبون والمعجبات أيقنت أن ما امتهنته لم يذهب سدى، وأنني «شغل أول»، ولا يصح ما تندرت به على تلك الفانيلة الواسعة والخفيفة، والتي بالكاد يظهر منها ذلك الجسم النحيف، والذي بالتأكيد تنقصه فيتامينات عديدة، وبحاجة إلى إعادة دورة رضاعة كاملة الدسم أولاً، لا تقل عن حولين كاملين، واعتناء بالوجبات الثلاث ابتداء من اليوم، مع مراعاة دائمة وكاملة للراحة البدنية، ونوم عميق لا يقل عن ثماني ساعات، يعني حتى النباتيات من النساء لهن وزن معروف، بس صاحبتنا الـ «دي. جي» ولا حتى وزن الريشة، لكن شغلها بصراحة مضبوط، ولا يقدر عليه اثنان من «المدفعجية»، لذا وجب عليّ الاعتذار له أو لها، فالناس بالجواهر وليس بالمظاهر، وأنا متقاعد ونظري ضعيف، ولا أجيد الإنجليزية الجديدة، وأخاف من الأماكن التي كلها تلمع وتلق وتتصالق، ولا تعرف هل هي مطبخ أو مطعم أو مشرب أو ملهى؟ خاصة أن مئة قدر معلق في سقفها!