ينظر الفنان التشكيلي للمنتج الفني، نظرة عميقة تمكنه من فهم ذاته، ومتطلباتها الاجتماعية، لذلك تجده يبحث عن المكان المناسب الذي يمكنه من بناء فكرة المنتج الفني، المكان الذي يقصده الفنان، يتميز بصفات، ويتكون من عناصر تخص ذاكرة الفنان القصيرة المدى والطويلة المدى، وخلال شريط زمني موجب، تبدأ عملية التأمل التي يصنعها الفنان، وتبدأ عملية البناء التي تمتد لأيام أو شهور أو حتى سنوات. عبر الحوار الذي أجراه حسن شريف، في مجلة التشكيل العدد 18 عام 2005، يؤكد الفنان الهولندي الراحل جوز كليفزر مواليد 1951، الذي درس النحت في أكاديمية «ماسترخت» للفنون البصرية، أهمية المكان، لبناء المنتج الفني، وقد ذكر حسن شريف في بند أعماله الفنية، عندما يقصد جوز كليفرز إنتاج عمل فني، فإنه يذهب إلى المكان الذي يحدده ليقضي فترة تسمح له ببناء فكرة العمل، ويستخدم خامات ذلك المكان وأشياءه في نسيج عمله، ثم يقوم بعرض تجربته في ذلك المكان، وبعد ذلك يغادره إلى مكان آخر ليقوم بأعمال أخرى وهكذا. في كتيب معرض الستة العام 1996 كتب جوز كليفزر عن نفسه وعم تجربته قائلاً: «الفن بحاجة إلى تربة ليتولد. بالنسبة إلي أحسن طريقة لتلقيح هذه التربة هي أن أرحل إلى تجارب جديدة وأتشرب من ثقافات مختلفة. انفعالات مثل : الحب، الغضب، السعادة، اليأس والأمل. هذه الانفعالات صعب تجسيدها وجعلها مادية.. إذ انه لا يعبر عنها من خلال الدموع أو الابتسامات فقط ولكن أيضاً من خلال عبارات ونصوص شعرية ممكن التعبير عنها بوساطة يد الفنان». التربة التي يتحدث عنها جوز كليفزر، تربة متصلة بالمكان الذي يقصده الفنان، هذا المكان يعلمنا كيف نصل إلى الداخل، أي إلى أنفسنا التي أنهكها العمل المستمر، ومشاغل الحياة الاجتماعية التي كنا نظن بأنها تشبع رغباتنا، لكنها للأسف تقودنا نحو طريق مغلق لا يعرف النور، وهكذا نحس بلحظة ضياع وألم، لكن عندما نقصد المكان نعود إلى حقيقة الذات، وما متطلباتها لإشباع الرغبة في الاستقرار، قد تكون هذه الرغبة عبارة عن ورقة تسقط من فرع شجرة، أنهكها الزمن فأرغمها على السقوط، أثناء اصطدام الورقة بالتربة، وتدحرجها، ندرك بأن الحياة قصيرة، وأن الروتين الذي نخاف من كسره، في الواقع الروتين بدعة نخلقها لأنفسنا، نعيش من خلالها لحظات قلق تبعدنا عن السعادة، هذا الروتين عبارة عن تلك الورقة التي تخلصت منها الشجرة، وأنبتت مكانها ورقة أخرى، خضراء ومتلألئة بالنشاط. المكان الذي يقصده الفنان، يكون أحياناً ركناً خارج أسوار المنزل، أو ركناً داخل أركان المنزل، ولكن هذا المكان يعلم الفنان حقيقة الذات وكيف نقودها نحو الاستقرار، ولا يكون ذلك إلا من خلال بناء المنتج الفني. science_97@yahoo.com