قاهرة علي قنديل
علي قنديل، الشاعر المصري، الذي غادر عالمنا، عالم الأحياء، وفق التعريف البيولوجي للموت، في 5/4/1975م.. إثر إصابته في سيارة النقل العامة، التي دهستها شاحنة في ليل طرقات الصعيد (ربما)، الذي يختلط في جنباته عواء الذئاب مع صرخات الانتقام الثأرية بين قبائل البدو المتناحرة في تلك البقاع..
مات علي قنديل قبل أن يكمل الحلقة الأخيرة وفق “ريلكه” وما قبل الأخيرة. كان باكراً على ذئب المصادفة هذا أن يفترس جسد الشاعر، الذي كان يؤشر بقصائده للغة شعرية مختلفة.
كان علي قنديل مع مجموعة أصدقاء مشكلين هذا الهاجس الجديد. وكان من أكثرهم شاعرية وتدميراً لأصول الشعر المستقرة. إلى جانب حلمي سالم وعبدالمنعم رمضان وحسن طلب والقائمة تطول. قصيدته تختلط فيها دماء اليومي القاسي ونزوع غامض في التقاط كينونة لا متناهية..
كان علي قنديل يفتت عناصر الوجود ليجمعهما في مناخ شعري يمتلك خصوصيته إلى حد بعيد:
“ونمشي فوق تراب النيزك نخفي وجهينا في صدر العائلة
العائلة الدافئة من اللبلاب أو النسرين أو نتواصل عبر لقاح البازلاء”
ليس ثمة ما يدخل من هذا الشعر في مجانية القول أو التراكيب الفارغة التي يختفي وراءها الكثيرون من دعاة الحداثة، بل وعبر مجموعته الشعرية الوحيدة “كائنات علي قنديل الطالعة”.. كل صورة، كل جملة شعرية تفيض بدلالات مناخ المعاناة المخصّبة بذلك الحلم.
علي قنديل حين كان يكتب هذا الشعر، كانت ذاكرة الشعر الخمسيني هي المهيمنة بإطلاق، والمناخ الشعري الجديد ليس بهذا البروز المختلف مع تلك الذاكرة وهذا برهان آخر على تميزه وشاعريته.
حين يتكلم علي قنديل بلغة الشعر عن القاهرة، التي أتى إليها غريباً من قريته للدراسة، نلاحظ أن هناك موروثاً شعرياً ونثرياً واسعاً حول القاهرة، نجده مفارقاً للجميع من الشعراء، الذين سحقت هذه المدينة أحلامهم الريفية وفق رؤية مثنوية تقترب أحياناً من السذاجة، ريف/ مدينة، وكانت لغة هذا الشعر وأدواته أقرب إلى رومانسية مضى عهدها. وهو بهذا يقترب من أمل دنقل والشعريّة المصرية الجديدة.
يقول علي قنديل:
“القاهرة: دخان يقترب: سماء
مدرجة في قائمة الأعمال. وفيما، بين
الحلم وفائدة الأفكار وتوابيت
تتناسل، فطر يتكاثر والساعة
في عكس إيقاعات القلب.
أفتح نافذة، يتهدج موج يصل الشرق
بأعصاب الغبطة، أفتح عمقاً، تنشطر
اليقظة في ألق الشيخوخة فأعدل
هندام أمي، أفتح، أفتح تجربة”
هذه هي قاهرة علي قنديل. يمشي فيها مشية المتسكع بين صخور أحلامه وكوابيسه، متعثراً “بأحجار الشيخوخة وموائد الكلام” كي يفتح فضاء جرح جديد في اللغة/ الحياة، تلك التي لاكها الخطباء ومتشعرنو الفصاحة والحداثات المفتعلة.
يمكن القول إن مثل هذا الشعر، كان يؤشر لأفق جديد في الشعر المصري.