روح رمضان
لشهر رمضان الكريم روحه الشفافة التي تحيطنا كهالاتنا، نتداخل بها ويتداخل بنا تلقائيا، وكأن ساعة النفس مضبوطة على إيقاع قدومه، وتضاريس الجسد مبرمجة على دقائقه، فلا غرابة أن يحيلنا إلى كائنات أخرى، لها أرواح مختلفة عن تلك التي ترتدينا في بقية الشهور، يردّنا إلى ذواتنا، فنصاب أحيانا بالرضا، وأحيانا بالفاجعة، وفق رعايتنا أو إهمالنا. كثيرون ينهمكون في تفاصيل حياتهم اليومية، في البحث عن المجد المالي أو الوظيفي أو التجاري أو الاجتماعي، وينسون مجد الروح، فيهملونها كثيرا، ويجافونها أكثر، حتى إذا يبست يصيح الجسد طالبا النجدة. وفي الواقع، ليس الجسد هو من أرهقه الركض في دهاليز المادة، وإنما الروح هي التي خُذلت بإهمالها ونسيانها. كثيرون يتذكرون الناس من حولهم، من موظفين وجيران ومعارف، يتصارعون معهم صراع البقاء والتنافس، فتتضخم لديهم طاقة سلبية تؤثر على قلوب من حولهم، فتتراجع محبتهم لهم، بل ويشرعون في تحاشيهم وتجنّبهم وعدم الاختلاط بهم، فالسلبيّة عدوى تنتقل بسرعة. وقليلون يتذكرون أنفسهم، يراعونها كما تراعي سيدة ورود منزلها، وكما تراعي الأم المحبة طفلها، فيتركون مساحة للتأمل وشحن الذات بالبياض، يفتحون للطاقة الكونية مساراتها الطبيعية كي تدخل في أروقة أرواحهم، إنها طاقة وفرها الله لنا كي تغسل أرواحنا، وتجعل الهدوء يسري في شرايننا وأعصابنا، وتبرمجنا من جديد، وفي قلوبنا منارة تضيء ارواحنا فتنعكس على من حولنا، لتزداد جرعة المحبة والاطمئنان، ويتراجع التنافس المدمر بين الناس. حاجتنا كبشر قليلة كي نستمر في الحياة باتزان وتوازن، وانسجام وتناغم، ورغم ذلك يحدث سباق شرس في كل لحظة، ولا بد من خاسر ورابح، فلا الرابح يرتاح إلى الأبد، ولا الخاسر يخسر إلى الأبد، فكلاهما مؤقتان، والعارفون يدركون أنهم لا يملكون شيئا حتى في حالة امتلاكهم كل شيء، والعارفون يدركون أن النفس أمّارة بالسوء، ولهذا، يتأمل العارفون حركة الناس بحزن شديد، وكأنهم يقولون لهم: متى ستمتلئ عيونكم... ثقافة رمضان ليست سلوك الامتناع عن الأكل والشراب فحسب، إنما ثقافة جوانية، فمن استطاع التغلغل إلى ذاته ليراها فقد رأى الحقيقة، ومن لم يستطع فإنه سيبقى معذبا مشتتا منهمكا بما ليس له وإن امتلكه، لأن مشكلة الإنسان تكمن في الامتلاك والتملك، ومعضلته هي أنه لا حدود لتملّكه، والعارفون وحدهم يدركون أن هناك مالكاً واحداً، والإنسان مملوك. ليس مهما أن نقرأ، لكن إدراك جوهر ما نقرأ. وليس مهما أن نكون مثقفين، ولكن تحويل الثقافة إلى سلوك يومي، وليس مهماً أن نخطب في الناس، ولكن المهم أن يخرج الكلام متسقاً مع المبادئ، وليس مهما أن ندب على الأرض، ولكن المهم هو أننا حين ننظر خلفنا، نرى خطواتنا وقد برعمت زهورا واشجارا، يوسّع عطرها صدور الأجيال، ويستظلون تحتها، فطوبى للباذرين في التراب الحياة. Akhattib@yahoo.com