الأم والوطن
تهيم على وجهك مرة أخرى في شوارع باريس متوغلا في نسيج المدينة وبين أزقتها، تشعر بالبرد والخواء الداخلي وتداهمك الوحدة والشجون، تشعر بالحنين إلى أمك وبالشوق إلى وطنك، الناس في بلادك يحتفلون بأعياد الأمهات وأنت ها هنا بعيد، تعاني الغربة والوحشة التي يخلفها الشوق إلى الوطن.
يالله، هناك رابط مقدس بين الأم والوطن، من رحميهما خرجت، وكلاهما أعطاك بلا حدود، كلاهما رعاك ورباك وعلمك كل الأشياء في الحياة حتى وصلت إلى ما أنت عليه الآن.
تشعر بالامتنان وأنت تذرع الشارع المتلألئ بالأنوار جيئة وذهابا، ترتجف من البرد، تبحث عن الدفء، تتوقف أمام فرقة متجولة تؤدي وصلة راقصة لا تكترث لها، لكنك تستجدي الدفء من أي تجمع بشري، ثمة ما يجعلك تعود بالذاكرة إلى الماضي.. فهناك أشياء جميلة تجعلك تعود إليها، تعود إلى سنوات الطفولة عندما كنت يافعا لا تزال تستكشف معجزة الحياة، حين كنت تعيش حالة ارتباط فطري بأمك التي منحتك الحياة، تفاصيل كل تلك السنين تمر في رأسك كأنها شريط سينمائي بالأبيض والأسود، صور باهتة لا تزال في الذاكرة، دفء حضن أمك الذي لطالما كان حصنا منيعا يضمك عندما تتكالب عليك الأيام، السعادة التي كنت تجدها عندما تقص عليك أمك الحكايات والخرافات والأساطير، الفرحة التي تملأ قلبك الصغير كلما منحتك أمك شيئا أو لعبة أو قطعة حلوى، أو تلك اللحظة التي تحملك فيها وتعانقك وتجعلك تشعر بأنك أنت ملاكها الصغير، تقبلك، تمسح على رأسك وتدعو لك ذلك الدعاء السماوي الذي قد لا تعرف معناه، لكنك تستشعر فيه أنها تطلب من السماء أن تحفظك وتحميك من كل سوء، حنانها الذي يستقبلك كلما عدت من غزواتك على أطفال الجيران؛ لأنك تعرف أن هناك من يحميك دائما من انتقام أقرانك الصغار، آه كم أفتقد إلى ذلك الآن وقد صرت وحيدا بدون مدافع، صرت كجندي تخلى عنه الجميع في وسط المعركة، عليك الآن أن تكمل معاركك وحيدا، عليك مواجهة صراعات الحياة وحيدا منفردا، عليك أن تكون شجاعا بطلا في زمن مات فيه الأبطال وبقيت أنت وحيدا بعيدا عن أمك التي لطالما حمتك من شرور الزمان، أمك التي لطالما جعلتك تشعر بالسعادة التي لم تعد تجدها الآن لأنك تائه في صحراء قاحلة تعرف أن ليس لها حدود وليس لك عودة إلى ذلك الزمان الذي كانت فيه أمك هي دليلك ومرشدك والنجمة الساطعة التي تنير دروبك المظلمة.
يوقظك من أحلامك صراخ طفل بجوارك، تهرع إليه أمه، تحضنه، تدفيه، يسكت من صراخه، تجعله يضحك، تجلجل ضحكته في المكان، تطغى على صوت الموسيقى الراقصة، يشعر الطفل وأمه بالسعادة، تشعر أنت بالغيرة، تقرر العودة إلى الوطن لتعانق أمك وتقبل رأسها وتقبل قدميها وتعتذر عن الغياب وعما قد تكون سببته من آلام لها بفعل حماقاتك، تطلب منها أن تسامحك لأنك كبرت ولأنك لم تعد ذلك الطفل اليافع الذي ينتظر نظرة منها ليشعر بالسعادة.
rahaluae@gmail.com