مرة جاء رجل كريم الخصال، رفيع العماد، وزرع شجرة نخل، وأمدها بماء الحياة، شق لها الأفلاج، وحوطها بالرعاية والحماية، وجعلها وسط العين، يتفقدها بقلبه إن كان حاضراً، وإن غاب ظل القلب «يحاتيها» ويسأل عنها، ويراقب حبوها ونموها، وبداية طلع نبتها.
فرح الناس حين كبرت النخلة، وأرخت سعفها، وظلت تستقبل الشمس كل يوم حتى أخضرّ الدرب الموصل إليها، قال للناس: ابنوا بيوتاً، لا تجعلوها مستوحشة، وحدها النخلة مع الأولاد والجيران تجلب الدفء إلى المنازل، ابنوا.. والغالي علينا، والرخيص عليكم، وإياكم أن تفرطوا في النخلة التي تجمعكم.
كبرت البيوت، وتباركت بالخير القادم، والحلم البعيد، ثم قال للناس: لا يساوي النخلة شيء إلا المدرسة، سنفتح مدرسة تكون قريبة، وأمينة، تعلم الأبناء كيف يعيشون، وكيف يعتنون بالنخل والطلع في بلادي.
امتد الطريق واصلاً البر بالبحر، مقرباً البعيد، ومفرحاً القريب، ثم قال للناس: لا شيء أغلى من الشجر والمدر، إلا الإنسان، ولا أغلى شيء على الإنسان مثل العافية، لأنها أساس العزيمة، وأنا أحتاج إلى عزائم الرجال، وصبر النساء، ففتح المشافي، قائلاً للناس: الغالي يرخص لكم، فقط يكفيني حبكم، وعرق جباهكم، وسندكم، مثل سيرة أهلكم الأولين، كانوا يعضّدون الأخ، ويؤمنون الجار، ويفزعون للصديق، بارك الله لكم في رزقكم وعملكم، والنخلة التي زرعتها يوماً، طرحت وحان أكلها، وطاب ثمرها، وتحتاج إلى ونيس في أرضها، وحولها.
كثر النخيل، وظلل الشجر، والصغار كبروا، والمرضى عولجوا، والفقر الذي كان يدق العظم ترك المكان، فقال للناس: إن الاعتماد الذي جلبناه من الأقاصي البعيدة ثقله اليوم عليكم، وعلى بركة أكتافكم.
كان الناس نهارها سعيدين، مثلما يفرحون بالمطر والحِيا، مثلما يغنون إن استبشروا بمولود يضيء منازل الجيران قبل بيت الجد والدار، فكانوا من حبهم للرجل يفتدون به النفس والولد وما تلد، وكانوا من فرط حبهم يقتدون به في حله وسيره، في حضوره وغيابه، وكانوا من فرط حبهم يسمون عليه ذكورهم.
تلك قصة رجل ووطن ونخلة غالية كان يريدها أن تظلل الجميع.. نتذكرها اليوم، ونسردها حين نحتاج لصبر المواقف، وحين يذكر الوداع، وحين تبكي الإمارات أحد أبنائها، وحين تفرح بمنجزها، وحين تتحرك بعض تلك الثوابت التي أرساها ذاك الرجل الذي كان أغلى من العين، ومن مائها وهدبها، وكان دائماً متوجاً على الرؤوس، لجميل حكمه، وعميق حكمته.
نتذكر اليوم بدء الحكاية حين قرر أن يزرع نخلة في العراء، لتكون وطناً للجميع.. نتذكر وطناً زاده زايد وزانه، وهذا الوطن بقي على وعده، وعهده، أيادي مبسوطة للجميع، وبيضاء لا تعرف المَنّ، ولا الأذى، ولا ينقطع خيرها عن البعيد الغريب، ولا ميرها عن المود القريب، هكذا عوّدنا الرجل، وعوّد خَلَفه.. وساروا مثله، وعلى نهجه، تتماهى صورة الأب بالابن، ونكاد لا نفرّق، ونكاد لا نرى إلا الرجل وظله، وهكذا هي الإمارات دوماً.. وأبداً، بيت متوحد في الداخل، ومنفتح على الخارج، تقودها حكمة «أبو خالد» الهادية: «لا تشيلوا هم»، وحكمته الخالدة: «أبنائي خالد وذياب وحمدان وزايد، وعشرة ملايين مواطن ومقيم».