أن تكون لاعباً لكرة القدم من المستوى العالي، فهذا معناه أن تكتسب قوة الأنهار التي تنساب من قدميك إبداعاً، وأن تكون نجماً يشار إليه بالبنان، فهذا معناه أن تكتسب شخصية تفوق أحياناً عمرك بسنوات، فأنت بحاجة لأن تتخذ قرارات لا يصل إليها إلا الضالعون في صناعة الحلول، وأن تكون لاعباً لريال مدريد، فهذا معناه أن تكون كل هذا، وأيضاً حكيماً صبوراً وجسوراً، وفي أحايين كثيرة تتحول إلى رجل خارق يستطيع أن يفعل ما يعجز عنه الآخرون.
إلى الفريق الملكي، وصل النجم الفرنسي كيليان مبابي، وقد صاغ الإعلام الإسباني قبل مجيئه وعند مجيئه، وحتى بعد مجيئه العديد من القصص، الطبيعية منها والسيريالية، كان الرجل بحسب الرئيس فلورنتينو بيريز، يمثل الجلاكتيكوس الجديد الذي سيحكم قلعة البرنابيو، ليخلف كل الأساطير الذين سبقوه من دي ستيفانو إلى الدون كريستيانو، مروراً بزيدان وبيكهام ورونالدو الظاهرة، وكان من الضروري أن نتحقق من شيء واحد، هل لمبابي الكتفان اللذان يستطيعان حمل هذا الإرث الثقيل؟!
واجه مبابي مع قدومه إلى قلعة الملوك، صعوبات كثيرة ليضع البصمة، وليقنع المدريديين بأنه الرجل المنتظر، وخاب الرجاء والمباريات تتوالى، ومبابي ليس سوى ظل من كيليان الذي تحوّل في ظرف زمني قياسي إلى أسطورة بحديقة الأمراء بباريس.
وأخذ الكثيرين الشك بقدرة مبابي على استعادة الملمح الفني المفقود، بل إن صحفاً ومواقع إسبانية وفرنسية، أطلقت استفتاءات، بإيحاءات تجارية، تدعو فيها قراءها ومرتاديها إلى تقديم جواب على سؤال مؤلم، هل أخطأ ريال مدريد باستقدام كيليان مبابي؟
وكما انحرف صحفيون ومحللون في تقييم الأداء الفني لكيليان، من دون الأخذ بالأسباب، أجمع المستفتون على أن مبابي صفقة خاسرة، ولا أمل على الإطلاق في أن يصعد الفتى إلى مرتبة الملوك، فبالأحرى أن يكون هو الملهم وحلال العقد داخل فريق لا يقبل من أي لاعب أن يكون ظل نفسه.
مطلق التجني، وقمة التطرف في إصدار أحكام القيمة من دون إعطاء الرجل أي مهلة استرحامية ليذيب جليد التواضع الذي كان عليه، في أسابيعه الأولى مع ريال مدريد، لأن ما سيحدث منذ أن أطلت سنة 2025 برأسها كذب الصحفيين والمتكهنين وحتى المنجمين الذين رفعوا في وجه كيليان الكثير من اللاءات.
خلال شهر يناير الحالي لوحده وقع مبابي ثمانية أهداف، وفي مباراة بلد الوليد سجل أول هاتريك له بـ«الليجا»، وكان ضالعاً في العديد من الأهداف التي وقعها «الملكي»، وحتى في الخسارة الموجعة أمام برشلونة في نهائي السوبر، كان مبابي نقطة الضوء الوحيدة في ريال مظلم.
ومقابل الاختفاء القسري لمبابي في أسابيع البحث عن الذات، سيظهر الرجل بعد مباراة بلد الوليد كثيراً أمام الكاميرات، لا ليقتص من الذين سلخوا جلده، أو من الذين حاكموه غيابياً فأعلنوا إفلاسه، ولكي يقول للجميع إنه كان في قبضة الشك، وليتخلص من ذاك الشك، لجأ إلى تمرين ذهني صارم، وحده ساعده على عدم التهيب من صعود الجبال، لأن ريال مدريد ككل الأندية الكونية مكانه في القمم.