في علوم الهندسة نعرف أن الزوايا هي المساحة المحصورة بين ضلعين، ففي المثلث ثمة ضلع ثالث حين يمتد بين طرفي الضلعين يكون ثلاث زوايا، أما في المربع فإن الأضلاع تتواصل أفقياً وعمودياً لتكوّن أربع زوايا.
في المشهد اليومي لحياتنا، تحيط بنا هذه الزوايا الأربع، أسوار البيت الأربعة، جدران الغرفة الأربعة، والأرض ذات الجهات الأربع: الشمال، الجنوب، الشرق، والغرب. ثمة زوايا أربع شغلت الإنسان منذ الأزل: عتمة الرحم، الميلاد، الحياة، والموت، ثمة زوايا أربع يدور بينها الإنسان: الواقع اليومي، الأحلام أو الطموح، الرغبات الإنسانية، التوق للخلود، وفي المعيش اليومي أربع زوايا يتوزع كل منها إلى زوايا أربع: العائلة، الوظيفة، الأصدقاء، والعلاقات الاجتماعية، وحين نتأمل هذه الأضلاع ندرك أن الإنسان محاصر بين هذه الزوايا الأربع، في كل بيت ثمة زاوية يستأثر بها فرد من أفراده، يعتاد الجلوس فيها، وينزعج إذا احتلها فرد آخر، قد تكون في غرفة النوم، أو زاوية مخصصة للكتب.
إن البحث عن زاوية محصورة بين ضلعين هو تعبير عن حاجة الإنسان للعزلة والتأمل، وهذه الحاجة لا تنحصر في فرد دون آخر، إذ أننا نجدها حتى عند الأطفال حين يتوحدون بلعبتهم أو بعنادهم الطفولي، بل إننا نجدها عند كثير من الحيوانات الأليفة في البيوت، حين تمر بفترات الكسل أو الهدوء، كأنما الزاوية وضلعاها أسوار لحماية النفس، من اقتحام الآخر، كأنما الزاوية وضلعاها حضن محاط بذراعين من الحنو، ألا تشبه الزاوية هذه حضن الأم وزاوية انحناء ذراعها حين ترضع طفلها، وحين تهدهده لينام، وحين تمنحه الطمأنينة من الخوف؟
والحاجة للزاوية ينتقي صاحبها زاوية محببة إلى نفسه، ترتبط بمشهد جميل أو نافذة الغرفة، أو بمسقط ضوء يوحي بشيء من العتمة أو الظلال، كأن الظلال لنا فيء في الهجير، وكأنها نور خفي في اشتداد العتم، ربما نعتقد أن في هذا الزمن، المليء بضجة الإعلام على مدار الساعات والأيام، انتفت الحاجة إلى زوايا الهدوء والعزلة بسبب استعصائها، لأنها مقتحمة بما لا تستطيع معه الزوايا حمايتنا، ولا نستطيع بإرادتنا الهروب من هذا الاقتحام، لذا نحتاج في مثل هذا الصخب إلى ملاذ الزاوية وطمأنينة العزلة، إذ أن فيهما يتم الانسحاب المؤقت من ضجة الخارج إلى همس الداخل، ورغم أن الحاجة لزاوية الهدوء والعزلة يستشعرها كل البشر، إلا أنها تشتد لدى الإنسان المغتني بالمعرفة والإدراك، المفكر، المبدع.
وأية زاوية هذه التي تصير على ضيقها مداراً يشع فيه نجم الشعر، وتتألق فيها روح الشاعر وعزلته الحميمة؟!