ما الشعر، إذا أراد أن يضيء الليل برداء الفجر، وأن يتطهر من جلاء الظلام بالحكمة، بصحو الأمم، فالشعر شغل الحياة وشاغلها مدى الدهر، وأثرها أصالة وفكر، إذا الشعوب تغيبه من ذاكرتها، ففي الخفاء عزيز ذو فضل منح الحياة مراتب، وأقام للشعراء مسارب وجاهاً، مجاهر بأبيات الشعر وقوافيها، من الخيال ومن حرقة الصدور، جاء للود مكمن وللعشق مهذب، وللورى أشعل الظلمات وما تبدد ضياء الشعر بمد التاريخ، سناء بما أصدق وأكذب وما أجمل بيوته فمن حسنها نحتت بجبال ومن بناء القصائد تحلق إذ بلا عجز تطوف القلوب بمكرم، ومن رسائل الشعراء فيض من غيض لم يذل الشعر الأصيل بفضله بل بجلاء الأيام يذكر في شر وفي خير، إذ الحياة من سراب تنهض في النفوس كالفردوس، وإن غاب الشعراء لم ينقض الشعر الأصيل، ولم ينحل من الظمأ وعرف المجد بأن الشعر ينبت نبتاً إذا مد التاريخ مداه وشعلته لا تخفى من سماء الأمم، وما ينطفئ الشعر وما ينبغي له أن ينطفئ إلا إذا انطفأت شمعة الأدب الحر من الحياة، وعم في وجودها انحسار الإرادة الإنسانية وابتغى للشعر النسيان.
باهتة هي الحياة إذا أضاعت الشعر من أرواح الورى، وما لم تحمل من نبعه أبيات وأحرف تباغت بها الضياع، لم يخلق الشعر لينام في معلقات، وما أفصح الشعر جنباً إلى جنب الحرية يحرك الأمجاد ويكتب ما كتبت الأقلام في طي القرطاس!
الشعر جزء من نبوءات الشعراء، وهج القلوب الوديعة الساكنة في خيالاتها، شغف الذات البشرية إلى تكوينها الحر وقيمها وقيمتها ونسيجها الإبداعي النابع من مكونها الثقافي الرصين، وكانت الأمة العربية أجدى أن توصف بأمة الشعر والشعراء لما للغتها من مكانة عالية نسجت لها عالماً من التحدي الزمني ليصف الشعر باللغة العربية رمزها الأصيل.
وكأن الشعر في هذا الزمن خفت صوته، ما عاد الشعر ينبئ الأمم بما خفقت وعلت، ويردف حاضرها بما بهتت بغائبها وماضيها، ويمضي بين الحقب لعل الشعر يهلل بشيء من فخر السدى ويدفئ الأوردة بشيء من عذوبة الحياة وضيائها الفكري، ينبش موروثها الشعري ورمزها على قدر الأزمان بما يطب جراء الزمن وصعابه وشتات الحياة ومعاناتها، لعل الشعر يحررها من حزنها ويقف بإرادتها إذا اشتدت الحياة. أما الشعر في زمن أسقط من كاهل الشعراء وحجب من الرؤى ولم يلهم الأمم لم يعد منطوقها السحري ورسالتها، وهو رهينة الزمن وبصيص قناديل الشمع متى أراد الشعر الحياة يشع الضياء حقيقة ويلهمها بالمجد.