في السفر أو في محطات التوقف أو حتى في منعطفات الوقت تصادف شخصيات قلقة، متوثبة متحفزة فتنقل لك العدوى بسرعة، خاصة ونحن نعيش في وقت الانفلات، واختلاط الأمور، والاشتباه عن بُعد، بعد ما غابت تلك الطمأنينة القديمة، والهدوء والسكينة بين بني البشر، اليوم تجد الناس يناظرون لحقائب بعضهم بعضاً، أكثر من التمعن في الوجوه، ومسرّة المُحيا، أي حزام بارز حول البطن، ولو كان مربوطاً على الطِوى، واتقاء الجوع والإملاق، يعني حزاماً ناسفاً، وأي امرأة منقبة بالسواد، وبقفازات في بلد غير ثلجي، وتتجول متلفتة ذات اليمين، وذات الشمال، يلعب بك الشيطان، ويكون ثالثكما هذه المرة بصدق الجد لا هذر الكلام، ولا ترى فيها إلا أنها مشروع مبكر للموت العبثي، بعكس الولادات، ومنح الحياة، رسالة كل أنثى على الدوام.
فما بالك حين يكون الجالس أمامك ممن ليس بالنباتي الذي يشفق على الحيوان، فكيف بالإنسان، وعدواً لبوذا دون أن يعرفه، وليس في جلسته تلك شيء ينم عن غير العدوانية، ولا تعرف مصدرها، يظل يهز قدميه حتى تكاد أن تصطك ركبتاه، ولا يعير الناس اهتماماً، تحاول في البداية أن تجد له عذراً، كأن يكون مسافراً لأول مرة، لكن مثله شغل «باصات»، وتسلق قطارات آخر الليل، ورفيقاً لسائقي الشاحنات في ضجرهم الإسفلتي، يزداد تلاطم رجليه.. وربذتا القدمين تتحركان في خواء عضلي، يشعره بالراحة قليلاً، لكنه يربي عند الشك والريبة، وتركب عليه أفلاماً بالأبيض والأسود، وهو لا يبالي حتى يرفع من ضغط الآخرين، تفصد العرق على الجبين دلالة واضحة على أن النوايا عنده ليست خيّرة، أو صالحة على الدوام.
تحاول أن تسبر الكتابة على جواز سفره الذي يكاد أن يتعرق في يده اليسرى غير الواثقة، لون الجواز البرّاق لا يوحي بثقة مطلقة أيضاً في البلاد التي أصدرته، ويقيناً ليست لها أي علاقة أو شبه تعاون وثيق مع «الإنتربول» بأي شكل من الأشكال.
وإذا ما أخرج حاسوبه، فستتحرك كل الإشارات الإنذارية التي تكمن في داخلك، باتجاه أن له ارتباطات بمنظمات في الخارج، ولها شبكة محلية ناشطة، وأن تحديد ساعة الصفر قد أزف أوانها، يطيل النظر لتلك الشاشة المعتمة من وهج النهار، فتشعر أنه لا يقرأ سورة تبارك أو قصار السور من جزء عم، فتتململ، وتريد أن تغير مكانك، وتريد أن يشعر كل من حولك بما تشعر به، وتتوجس منه، ويزداد ريبك منه، خاصة حين لا يقدر أن يجلس على «بِيّصه» خمس دقائق كاملة.
تلتقي عيونكم فجأة ولثوانٍ، فيعلن التجافي حضوره، تود أن تُبَلّغ عنه في الساعة والحين، لكنك تحسبها، ماذا ستقول: «يكاد المُريب يقول خذوني»!
لماذا الشك هو الذي يحركنا الآن؟ لماذا الريبة هي السبّاقة؟ لماذا تراجعت الثقة وتلك الطيبة الإنسانية العفوية؟ من صنع بنفوسنا هذا الاحتراب عن بُعد؟ لماذا حين نلتقي بالآخر، نتحاشى أن نأخذه بالأحضان، خوف أن يكون ملغماً أو قابلاً للانشطار!