في الحداثة السائلة، ربما كانت اللعبة كلمة حق يراد بها باطل. هكذا تصوّر لنا لغة الواقع عندما يحدث أن الإنسان الحديث قد وقع تحت سطوة ضمير مستلب، وعلاقة سائلة إلى حد الغياب الكلي لذات أصبحت اليوم في عداد الأموات.
في كتابه «المراقبة السائلة»، يقول زيجموند باومان: «لقد تبين أن لعبة تحرير الإنسان، كانت في واقع الأمر لعبة السيطرة، فربما كان مشروع التنوير حلماً نبيلاً بنشر نور الحرية والعدل والتسامح والسلام والرخاء، ولكنه تحوّل إلى أداة تعزز طموحات وآليات الضبط، واحتكار الفكرة في مكان ما من هذا العالم». يتجلى لنا من هذا الكلام بصيص يسلط ضوءه المشع على مناطق واسعة وعميقة من النفس البشرية، حيث تبدو هذه النفس مثل بوابة خربة يدخل منها الغبار، وكذلك الكائنات المتوحشة، واليوم من يضع نصب عينيه الاهتمام بما يقوم به عالم التواصل الاجتماعي، يشعر بالخجل، وكذلك بالأسف لما يحدث في أروقة هذه الشاشات الصغيرة والمذهلة، فإنها تبعث على الألم كلما عاينّا فكرتها الأساسية، وهي تسييل الأخلاق، بحيث تصبح مثل مجرى مائي يكب ما يكمن في أحشائه كالقيء، ويظل يكب ويكب حتى تفيض الطبيعة بحثالة مائية، مقذية.
وبهذا السلوك السائل يصدق باومان عندما شرع في تصريحه المهم بالقول: «في زمن الهواتف النقالة، والهواتف الذكية، وفي زمن الطائرات من دون طيار، في زمن مواقع التواصل الاجتماعي، والمواقع الإلكترونية الاستهلاكية، وفي زمن أسلحة الدمار الشامل، وفي زمن انفصال الفعل عن الفاعل، وفي زمن انفصال الفعل عن الأخلاق، في زمن كنّا تحت سلطة الإغراء، والإغواء الملون برغبات هائلة، ولا يمكن للعقل تفادي الاصطدام بها».
إذن، الإنسانية أمام مشروع في غاية الخطورة، كما أنه في غاية الأهمية من حيث مسؤولية الجميع بحق الجميع، ولا مجال للتفرغ فقط لمحاكاة الآخر عبر أحزمة زجاجية سميكة عازلة، لا يمكن للفرد أن أن يتخطاها إذا لم يكن يجيد العلاقة بين العقل وتلك الأجهزة الإلكترونية الساحرة، وتلك القيم الأخلاق المتلاشية تحت سنابك خيول عصرية جامحة، وجانحة.
اليوم عندما نتأمل العلاقات بين أفراد المجتمع الواحد، نرى هناك الصدوع الخطيرة، والخدوش المؤلمة، والشروخ التي تجعل من الأفراد، وكأنهم كائنات فضائية تزور الأرض دون أن يعرف بعضها بعضاً، وهذه ظاهرة ربما لا يلحظها من يغوص في أعماق المحنة «السوشيلية»، ولكن لا بد أن نوقف العجلة قليلاً، ولا بد أن نتأمل المشهد بحيادية ومن دون شطط، حتى نستطيع معرفة أين نضع أقدامنا، وأن نوجّه البوصلة الاجتماعية، حتى إن رأينا أن المسألة ليست بتلك البساطة، وأن العقدة عظيمة، وفظيعة، ولكن الإنسان الذي صنع الآلة الذكية، هي نتيجة صريحة، وصادقة لذكاء إنساني فطري، هذا الإنسان قادر لا محالة على استقصاء الحقيقة فيما حدث بين عشية وضحاها عندما توقف العقل عن مجاراة الآلة، وترك الأخلاق تجابه عصبية الآلة، وكذلك تهور الرغبات، مما نتج عن ذلك هذا العصف السائل، والجارف، والذي أتى على الزرع والضرع في مجال القيم الإنسانية، وأصبح الإنسان المسرور جداً بعصره التنويري، يصفق اليدين حسرة على ما تم اغتياله في أثناء هذه المرحلة التاريخية، والتي لم تكمل نضجها بعد، حيث اقتحمت السيول أسوار الحداثة، وأكلت من مائدتها، وما تبقى أطعمته للنفس الأمّارة، وهو الشيء نفسه الذي حدث بالنسبة للأديان عندما استولت الأنسنة على العقل، وقالت له: «اخدم نفسك بنفسك»، ثم تركته يهيم في غوغاء الحذر المشوب بالعجز الداخلي، وهذا ما أسفرت عنه الحداثة السائلة، هذا ما كان حلماً أصبح اليوم وهماً، عندما تولت الآلة مهمة تدبير منازل المستقبل، وتحويل الإنسان إلى مجرد مستهلك، لما تفرزه الآلة الذكية.