هناك أماكن بعينها تشد لها الرحال لسبب معين، قد يكون بسيطاً ولا يشاركك فيه الكثيرون، لكنه يكفيك وحدك لتصل إليه بحراً أو براً أو جواً، يسبقك الحلم والشوق، وما يجعل الصدر يرقص رقصة نشوة القبض ساعتها على الأماكن، التي لم تعرفها بعد، وما قد تخبئه لك من سحر أو دهشة أو ما يمكن أن تحمّلك إياه في حقائب العودة من مسكها أو عطرها أو ذكريات تغالب الأيام والنسيان، وتكون جذلة لوحدة خريف العمر.
من تلك الأماكن جزيرة كورسيكا، كما يسميها سكانها الأصليون، أو «Corse» كما يسميها الفرنسيون الذين اشتروها من جمهورية جنوه الإيطالية بمليوني فرنك قبل قرنين ونصف إلا قليلاً من الزمن، حيث كانت تتبع لها منذ عام 1347 حتى 1768م، الغريب أن نابليون الذي يعد إيطالياً، ويتحدث الإيطالية، ولا يجيد الفرنسية إلا بلكنة إيطالية ولد في عاصمتها أجاكسيو بعد سنة من خضوعها للفرنسيين، وعُد بذلك مواطناً فرنسياً، وغدا قائداً وإمبراطوراً فرنسياً استثنائياً، وواحداً من عظماء التاريخ الإنساني. نفس هذه الجزيرة ظلت الجمهوريات الإيطالية تتناوب على حكمها، وضمها المسلمون وبقيت تحت سيطرتهم 124 عاماً، أسموها «قرشقة»، كما وردت في كتاب الجغرافي الإدريسي «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق»، وحين تنزل إلى يابستها ستدرك بعض التأثيرات الأندلسية الغائبة هنا وهناك، لكن ملامح جزائر البحر الأبيض المتوسط هي السائدة، فهي لا تختلف عن سردينيا أو صقلية إلا بتلك المرتفعات الجبلية، والكهوف الجيرية، وتلك الصخور المسننة الغاطسة في بحر أزرق صاف أو أخضر بلون الزمرد، تبدو لك وكأنها قطعة جبلية منسية في الماء.
سبب زيارة بعض الأماكن والتي قد لا يشاركك فيه الناس، ولكنه يكفيك وحدك، قد يكون فضولاً معرفياً، لكنه محفز لرؤية جزيرة كجزيرة كورسيكا، لأنها مسقط رأس نابليون، وهذا يكفي لتغزوها بأثر أو ثأر تاريخي، لتعرف كم هو صغير ذلك المكان، لكنه أخرج رجلاً قصيراً وقائداً كبيراً لا يتكرر، غزا العالم بطريقته المختلفة، بحيث كان مع المدفع مطبعة، ومع السيف كان القلم، هناك يمكنك أن تشاهد مسقط رأسه في بيت والده «جوسيب» الذي لا يزال موجوداً، وإن تحول اليوم إلى متحف وطني، وهي كذلك مسقط رأس أشهر الروائيين الكلاسيكيين الفرنسيين «ميشيل زيفاكو» صاحب رواية «الفرسان الثلاثة» و«جسر التنهدات». وهناك سبب ثان عفوي ربما، وهو عشق العسل الذي يشبه قطراً سقط من الجنة، وتذوقته في بقاع الدنيا، شرقها وغربها، واليوم تريد أن تجرب عسل كورسيكا الذي يعد الأشهر في العالم، بفضل أشجار الصنوبر والسنديان والبلوط والفلين والتين والزيتون والتوت والمرتفعات الجبلية العالية كـ«مونتي شينتو»، ربما هي أسبابي نحو تلك الجزيرة، لكن ما فيها كان أكثر، فقد عرفت فيها أياماً من فرح غامر لا تنسى، وجرحاً جانب الخاصرة من صخورها لا يمحى! وغداً نكمل.