ولما علمتم يا سادة يا كرام، ما جرى لمحفظتي على يد الماكر ابن اللئام، وما سببه لي من ضيق وازدحام، ما جعلني أدعو عليه بحزب عم، وسورتي التغابن والأنعام، بأن تصيبه حمى نفّاضية تبرّد فيه العظام، جاءني ماداً يده مصافحاً بالسلام، مدعياً أنه تكبد مصاريف الانتقال، وصون الأمانة، وكثيراً من هذر الكلام، وكل ذلك مما يعد نفسه بزيادة الأجرة، ورفع قيمة الحصة، ومكافأة ابن الكرام، فاستصغرته وأكبرت نفسي، وقلت له: فألك طيب، يا رجل يا طيب! والخير أن تعجل برد المطلوب، لأن العاشق في شوق لرؤية المحبوب، وضرب لي موعداً سواء، لا يخلفه إلا من أراد ظلماً أو بغياً أو افتراء، فقلت في النفس: مرحباً بالحرامي.. وسنرى إلى ما يرمي من المرامي، ولما كان العهد والوعد في بلد الإفرنج، ضبط وربط وجدّ، لا كما عند أبناء العمومة، هزل وهذر وصدّ، فقد غَفَتْ عيناي بعد طول سهاد، وأطلقت لأحلامي العنان، بعد أن كان عزّ الرقاد، وأيقنت أن المحفظة آتية في الحين والوعد، فاستبشرت خيراً، ولم أضع يداً على يد، أو خداً على يد، وإنما قمت في الحال، وأحضرت ما بقي معي من مال، وانتظرت.. وانتظرت حتى فاض بي الكيل والمكيال، حينها عرفت أنه يلعب على الحبال، يريد أن يكسب وقتاً، ويريد أن يلحس الأموال.
يومها كنا في التسعينيات، ولم نكن في زمن «المسجات»، وهاتفياً يمكن أن تضبط الحسابات، ولا كان وقت أرقام التحويلات، فقلت، وأنا أفكر بأعلى ما في حسي، وأبث ما في صدري لنفسي، إن هذا الغلام الذي بدأ من حديثه «هتّلي»، يريد أن يستدرجني ليأكل على ظهري، فقمت من فوري بإلغاء البطاقات، لكي لا تزيد السحوبات، وتصبح مصفرّة كوطب الشنّ كل الحسابات، وتداركت ما بقي في مصرفي من باقي المعاشات، بعد ما تنطط من حانوت، لمتجر، لمحطة وقود، وطاف على كل «البارات»، ولما صدته كافة الماكينات، أسقط في يده، وحار كيف يمكن وضع رأسه على مسنده، فلم يجد إلا الوفاء بعهده، والبر بوعده، ولا مجال للمغامرة أو التجربة أو ركوب المخاطرة، فالبطاقات غدت ضامرة، بعدما كانت عامرة، اتصل معتذراً لتخلفه، متعللاً بسقمه، وأنه كان طريح الفراش، تنفّضه حمى، كحمى النطاح، لم يغمض له جفن، وعلى جبينه بارد القطن، وعلى عينيه كمادات العُهن، ولم يذق لأيام طعم القراح، فسررتها في نفسي، وقلت: الطيّب دوماً مبتلى، لكنني شممت رائحة ابتزاز، من صوته الهزاز، فتظاهرت له بعدم الاكتراث، وأشعرته بالارتياح، فأقسم بجدوده العرب الأقحاح، ألا يمرّ هذا الصباح، إلا والمحفظة عند فاقدها، وصدق هذه المرة، فقد جاء على حين غرة، لكنه هذه المرة، كان كاسر الجرة، فالمحفظة كانت عند سقوطها كرأس القط، والآن في يده كرشق البط، فأعطيته المكتوب والمقسوم، فانصرف متجهماً، ناعياً حظه المشؤوم، وهو بداخله فَرِح، داعياً رزقه أن يدوم، على محافظ أبناء جلدته، لأنها كالتخوم، وأن يجنبه محافظ المهاجرين، وناس العموم، لأنها خالية الدسم ولا فيها غير السموم والهموم!.