هذه هي محنة العقل، هذا هو مأزق العالم منذ عصر التنوير والإنسانية تطرح سؤالها الوجودي، كيف يمكن عقد الصلات التوافقية بين العقل والسلام العالمي؟ ولم يزل السؤال يتزحلق على صفيح حارق، لأن الإنسان الذي بنى الحضارة، وادعى أنه محب للحياة، ومحب للجمال، هذا هو اليوم، وكذلك الأمس يخرق قاعدة البث الداخلي بسلوك عقلي أقرب إلى الجنون، وأبعد عن العقلانية.
هذا الإنسان نفسه الذي تغنى بجمال القمر، وعطر الوردة، وعين الغزال، ووشوشة الموجة، ورهافة النسيم، نجده يعمل بجد واجتهاد على تدمير ما بناه، وتخريب ما أنجزه، وكسر ما استقام، وثني ما اعتدل وطي ما صعد، لأنه لم يزل، ورغم كل الادعاء، والتباهي بقوة العقل، ونزاهته، فإن هذا العقل ينحني ببساطة لرغبة جامحة اسمها «الأنا»، وهذه الأنا المزعومة، تفعل ما يفعله السحر فتدمي وتفري وتحفر في الفعل البشري أنفاق الموت والإبادة البشرية، وحرق المراحل والسعي حثيثاً، لإزالة كل أوجه الجمال التي تعب الإنسان من أجل أن تكون مرآته التي يتطلع إليها في الصباح الباكر، ويذهب إلى الشارع متباهياً بوجهه ووجاهته وتوجيهات العقل ولكن سرعان ما يخونه هذا العقل، ويقول له احذر من جارك إنه ينوي إزالتك، ولا تثق بصديقك أنه يخدعك، أما أخوك فهو يغار منك، وضع بينك وبينه مسافة كافية.
هذه سيرة الإنسان وهذا سبر العقل، فإما أن نضع حداً لجموحه، أو نقبل بجنوحه، وهذه هي المأساة التي نعانيها اليوم، حيث الحروب أصبحت كألعاب البلاي ستيشن، والإنسان طفل يلهو عبر هذه الآلة الفتاكة، هذه الساحرة التي أخذت لبه، وسلبت قلبه، واستباحت كينونته، وأباحت إبادته لمجرد خلاف بسيط، فقد تقوم قيامة العقل، ويظل يحرضك، ويحثك على التخلص من ندك، وبأي صورته تراها، وترتئيها.
هذه هي الحضارة المعاصرة، التي وقعت بين فكي كماشة العقل وطموحاتها الشيطانية، والتي أصبحت في الوجود كأنها النار في الهشيم، وأصبح الإنسان يخضع لمآلاتها واحتمالاتها وانهياراتها ومثالبها ومخالبها، لأنه لا يملك البوصلة التي توجه العقل، ولا اللجام الذي يحد من تهورات العقل، ولا الروح التي تخفف من وطأة العقل.
اليوم في عصر الحياة السائلة، تبدو الثوابت مثل مياه الأمطار التي تتسرب من بين ثقوب سقوف مهترئة، وتبدو الضوابط مثل جروح متقيحة، ولا جدوى من الشكوى، لأن السيولة في كل شيء حركت طبقات الأرض تحت النفوس، وهزت الجدران، والأشجان، وصار الإنسان مجرد زعنفة ترتقها أمواج عاتية، صار الوجدان قماشة ممزقة إثر حلقات من دوران حول النفس من دون وعي بأهمية الثبات على قيم إنسانية أهمها الحب، هذه الكلمة التي غابت من الوعي اليوم، وتلاشت ملامحها، وطمست جذورها لأن السيولة في الحياة جرفت الجذور، وحرفت العقل عن مواضعه حتى صار مثل فنجان قهوة باردة تمتص رائحتها حشرة تائهة.