تتزاحم الأفكار في رأسي حول هذا الرجل، لا أعلم كيف عليَّ أن أرتبها لأقدم في سطور قليلة جداً، بعضاً من ذلك الأثر العظيم الذي بقي وما زال قابعاً في وجداني. أحبس الدمعة بألم أجهل سببه، هل لأني لم أكمل أسئلتي التي بقيت عالقة في ذهني كلما التقيته فينتهي الوقت قبل أن يأتي دورها لأطرحها عليه؟ أم أنه ألم بسبب اللهفة الهائجة وغير المشبعة والتي تعتريني -حتى الآن- كلما تصفحت عدداً قديماً من مجلة «ماجد»، وكانت تجد شيئاً من السكينة في حديثه الودود، والذي حرصت عليه حتى بعد رحيله عن المجلة؟ أم أنه ألم بسبب تقصيري في التعبير عن الامتنان له بسبب أثره المعرفي الذي سيبقى ما بقي عقلي حاضراً.
نعم دَمَعَت عيناي حزناً من خبر وفاته، وجاء حزني عليه مضاعفاً مستنهضاً حزني الذي ما فتئ يراوح بعد وفاة والديّ (رحمهما الله) وكأن الحياة تخبرك أن لك آباء آخرين ستبكيهم كثيراً. آباء لم يُنجبوك ولكنهم قدموا لك أفضل ما يمكن أن يقدمه الآباء لأبنائهم. لم يرزق أستاذنا (أحمد عمر) وطوال عمله في «ماجد» بطفل، ولكنه كان أباً خفياً لأطفال الوطن العربي منذ نهاية السبعينيات.
لا أدري هل كان هذا الجيل محظوظاً بـ«ماجد»، أم أن «مجلة ماجد» كانت محظوظة بهذا الجيل الذي لم يلحق على عقم التشتت التكنولوجي فأُغرِم بها، ولكني متأكدة بأننا كنا محظوظين بهذا الأب الطيب والمبدع والخلوق، وكنت أنا محظوظة بقربي منه وتعلمي منه وتواصلي معه.
أذكر حديثه الحنون وهو يحاول إقناعي بأن أقبل بإعادة نشر صورتي وأنا طفلة في المجلة. وكان رحمة الله عليه قد نفذ فكرة باب مبتكر -كعادته- ينشر فيه صور أطفال كان قد سبق نشرها في أعداد «ماجد» الأولى والتي مر عليها أكثر من ثلاثة عقود -في ذلك الوقت- متتبعاً أخبارهم ويسأل عن مكانهم الآن! أذكر جمال روحه ورقي تعامله أمام رفضي وإصراري العصبي بخصوص إعادة النشر، وقوله بأن خجلي من مظهري وأنا طفلة لا معنى له أمام تميزي المهني الحالي. حزنت كثيراً فيما بعد أني كنت ضعيفة أمام خجلي، وحزنت أكثر لأني رفضت طلباً لرجل كان يراني قدوة تستحق هذه الهدية. كان رجلاً مختلفاً، طفلاً في براءته ومبدعاً بأفكاره، قائداً بعمله، ورجلاً حقيقياً بنبله، وقد جمع نبل الكِرام في زمن قد جاد لنا بالجميلين. أطال الله أعمار من بقي.. ورحم من رحل منهم.