عندما يحدثني أحد عن حادثة قريبة شاركته فيها، عادة ما أحتاج إلى لحظة سكون لأستدعي هذه الذكرى، وهي لحظة تذكرني بما نعرفه جميعاً عن الطريقة التي نبحث بها عن ملف فقدناه عبر جهاز الكمبيوتر لدينا، وهي الطريقة نفسها التي أصبحنا نبحث بها عن أي حوار سابق في برنامج المحادثة «واتس آب»، وهي الطريقة ذاتها التي نبحث فيها عن سطر مفقود في ملف رقمي كامل. وهذا أقرب لاستجابة الدماغ للذكريات الحاضرة، غير أنه مع ذكرياتنا الأبعد، أعتقد أن الأمر أقرب ليكون كطريقة تصنيف «ديوي العشري»، التي كنا نبحث بها عن كتابٍ ما في مكتباتنا الكبيرة كما فعلنا أيام الدراسة الجامعية، تلك المكتبات التي كنا نصعد طوابق للبحث عن كتاب فيها، ثم نغدو ونروح بين أرففها ساعات وساعات لنحصل على كتاب مهم جداً وجميل، غير أنه لن يفيدك إلا بسطر واحد في البحث الذي نشتغل عليه!
تبدأ الرحلة في هذا البحث عبر صناديق صغيرة عادة ما توجد في مكان واضح في المكتبة، يحوي كل صندوق عدداً كبيراً من البطاقات التي تحوي بدورها على أسماء المؤلفين وبطاقات بأسماء الكتب وبيانات أخرى مرتبة أبجدياً، وعند تحديد الكتاب المقصود تبدأ رحلة البحث عنه برقم استدعاء ستجده في كعب الكتاب عبر أرفف مكتبات قد تتجاوز الألف رف. لا أعلم من أين كان يأتينا ذلك الصبر، خصوصاً نحن الجيل الذي شهد الانتقال السريع للبحث عبر «الإنترنت» وميزاته الفائقة. ولكني أعلم تماماً أن الإصرار والتفرغ لهذه المهمة الدورية عادة ما كان يعتريهما متعة.
في تصنيف ديوي اجتهد صانعوه في أن يغطي مجموعة واسعة من المواضيع المندرجة ضمن عشرة أفرع من فروع المعرفة، ينقسم كل فرع إلى عشرة، تنقسم أيضاً إلى عشرة، وهكذا لتصل إلى مواضيع أكثر تحديداً. يبدو هذا الأمر معقداً، ولكنه الأقرب لطريقة استدعاء الذاكرة القديمة في أدمغتنا، إذ إننا نتحدث عن عمليات تتم في مليارات الخلايا العصبية التي تعمل على سطح تلافيف وأخاديد في القشرة الدماغية. ويحدث كل هذا في وقت قد يطول، وقد يأتي بذكرى صغيرة واحدة قد تفيد في عملية البحث الأساسية في الذكرى، وفي كل الأحوال يأتي شاقاً ولكنه مثير، فليس أمتع من البحث في الصناديق القديمة في ذكرياتنا!