تحدثت طويلاً عن الذاكرة التي تنشأ معنا والتي يساهم فيها المحيط بكل تنوعاته أو التي نصنعها بأنفسنا.  
 وفي هذا الشأن، استوقفني كتاب: (The Art of marketing memories) لمؤلفه Meik Wiking مؤسس مركز أبحاث السعادة في الدنمارك، والذي يعد أول مركز لأبحاث السعادة في العالم. لا يحاول «مايك» في كتابه الذي صدر منذ ما يزيد على عقد من الزمان أن يعلم قارئه كيفية صنع تجارب سعادة فقط، وإنما كيفية الوصول بها إلى الذروة وطريقة تخزينها واسترجاعها في المستقبل، مستعيناً في إقناعنا بأطروحته ببيانات من مسوحات ومقابلات ودراسات عالمية وتجارب سلوكية على عينة كبيرة.
حتى الآن يبدو الأمر وكأن لإرادتنا السيطرة الكاملة، بشرط ضبط المحيط، على ذاكرتنا، غير أن الحقيقة تختلف تماماً بل وخارجة عن السيطرة في جانب كبير منها، فهناك شق كبير منقول من ذاكرة السلف في جيناتنا المتوارثة، وهو منقول بأتراحه على وجه الخصوص. هذه الذاكرة لها دور كبير، حسب ما أثبت علمياً، في حفظ النوع لدى الكائن البشري وباقي المخلوقات، عبر تقوية الترسانة الدفاعية لدى الأجيال حالياً في استذكار آلام لتجارب سابقة لأسلافهم وتجنبها فطرياً دون العلم بها أساساً. وبجانب ذلك، فإن ذاكرة «الجينة» التي نحملها لها دور كبير أيضاً في استحواذ جزء مهم من ذاكرتنا على الألم بلا سبب ندركه الآن، ولكن له ما كان يبرره من أحداث في فترة أخرى عاشها أسلافنا وكان لها التأثير الصادم عليهم. 
الواضح أن هذه التجارب السابقة لأسلافنا ستبقى في ذاكرتنا تؤثر علينا، وتحدد سلوكنا إلى حد ما. ولكن إلى أي حد؟ قد يطرح البعض هذا التساؤل أو غيره من قبيل: كيف نتجنب هذا التأثير لذاكرة منقولة عبر جيناتنا المتوارثة؟ يبدو طرح هذا السؤال في غاية البساطة، غير أن حقيقته في غاية التعقيد.. والغموض أيضاً، وخصوصاً إذا أدركنا أن ذاكرة «الجينة» كائن حي يتغذى وينمو ويصبح شرهاً في أوقات كثيرة في حالة توافر البيئة لذلك، كما أشار المفكر الألماني «ايكهارد تول» في مبحثه حول كتلة الألم. ولكن في كل الأحوال تبقى المعرفة بهذا التأثير على ذاكرتنا الحقيقية جزءاً من دورنا في صنع ذاكرة صحية سعيدة، حتى وإن كنا غير قادرين على التخلص من تلك الجينة نهائياً، وهذا أفضل بكثير من الجهل التام بها والاستسلام لشراهتها.