ما أعجبني في المنتخب الإسباني، منذ أن بدأ يرسل في المدى الأوروبي بألمانيا قلعة السيمفونيات، معزوفات جميلة لا تتشابه إلا في انسيابية اللحن، ليس قدرته الرهيبة على أن يربط الكرة بأقدام لاعبيه فلا تضيع منهم إلا نادراً، فيكون لامتلاك الكرة هوية وغاية ومتعة معبر عنها، وقلق مستدام للخصوم، وليس إتقانه الكبير للاسترجاع، مع التحول السريع للحالة الهجومية بـ «سُعار» رهيب، ولكن أن يواصل السير في «ردهات» بطولة أوروبا برؤوس باردة، بعيون شاخصة للقمم، وبأذان مقفلة لا تصلها عبارات الإعجاب ورقصات الترشيحات، فمهما قالوا عن هذا المنتخب الإسباني فهو مثل الجبل الذي لا تهزه ريح، لا يريد أن يميل، حيث تميل أناشيد الغزل.
استمعت لخبراء ضالعين في علم الكرة، يحذرون المنتخب الإسباني من فرنسا لا تعجب ولكنها تُرعب، من فرنسا لا تمتع ولكنها تُوجع، بل هناك من باع جلد منتخب «لاروخا» بأبخس الأثمان، لأن من يقف أمامه منتخب فرنسي يحفظ عن ظهر قلب، بمدرب استراتيجي وبلاعبين مجربين، تضاريس الطريق المؤدية إلى النهايات وللألقاب، ولكن لا أحد فكر في أن لهذا المنتخب الإسباني عبوات ناسفة، قطارات فائقة السرعة، وصواريخ تنطلق من قواعدها لتأتي في المساءات الحالكة بالبدر المفقود.
ومن فعل كل هذا، من صممه بنوع من الدوجمائية، مدرب لم يكن أحد يعرفه قبل سنتين، يوم تقدم بإيعاز من الاتحاد الإسباني لكرة القدم، ليقبض على جمرة «لاروخا»، وقد استعرت بعد الخروج مع لويس إنريكي من ثمن نهائي كأس العالم 2022 بقطر على يد «أسود» المغرب والعرب.
هذا المنتخب الإسباني الذي أمتعنا بالسهل الممتنع وبالامتلاك الإيجابي، يمثل زواجاً رائعاً بين الدوجمائية والبراجماتية في فكر المدرب لويس دي لافوينتي، الذي قال بخروج المنتخب الإسباني من مونديال قطر أمام المغرب بنسبة امتلاك وصلت إلى 70 في المائة، أن شيئاً ما يجب أن يتغير في فلسفة اللعب، لتعود «لاروخا» إلى القمة، وما تغير هو أن لويس دي لافوينتي جلب لهجومه صاروخين هما لامين يامال ونيكو ويليامز، فتحقق في الأداء الهجومي الحيوية والتنوع والخصوبة المولدة لمذاق رهيب في الإبداع، ثم دفع لاعبيه بمقاربة حكيمة إلى إظهار أفضل ما لديهم، ما سمح لهذا المنتخب أن يعبر منذ خروجه متصدراً من دور المجموعات، المسالك الوعرة، أقصى المنتخب الألماني على أرضه وأقصى المنتخب الفرنسي الذي طالما بلغ القمم، وهو يمشي على جثث المبدعين.
ما دلتني عليه المشاهدات التي لا أحصي لها عدداً، أن الأبطال يولدون من رحم البطولات، فلا أعرف بطلاً زفه لأي بطولة تاريخه وسوابقه، لذلك إن توشح المنتخب الإسباني يوم الأحد ببرلين باللقب الأوروبي الرابع له فلا عجب إن وصفناه بالبطل الأجمل والأمثل، ومعه ستكون كرة القدم قد تعرفت على مدرب أعاد الحياة إلى «التيكي تاكا»، اسمه لويس دي لافوينتي.