تفرد الإيقاع وجذور التراث في عالم ترجّه المتغيرات كل يوم، وتختلط فيه ثقافات الشعوب اختلاطاً لم يسبق له مثيل في التاريخ، وتتعرض له الذاكرة التراثية للضمور والاضمحلال، تصبح الفنون الشعبية التي كانت تعبر عن فكر ووجدان الجماعة، وتصور طرائق عيشها وآمالها ومعاناتها، آيلة للسقوط في مهاوي النسيان، والانقراض أمام سطوة الفنون الحديثة المختلطة، وانصراف الناس عن قديمها وتراثها الذي لم يعد يؤدي سوى وظيفة ترفيهية واستعراضية في المهرجانات الرسمية، ولا يلتفت إليه الناس إلا بوصفه واحدا من الأنشطة الطريفة وسط حشد هائل من الفعاليات المرافقة لهذه المناسبة أو المهرجان. لكن الاغنية الشعبية قد حققت انتشارا واسعا في السنوات الأخيرة، وشكلت ذائقة خاصة بها، يستسيغه، بل يشغف به الكثيرون من العرب في شتى الاقطار العربية والعالم. فاللحن الخليجي يمكن تمييزه بسهولة من بين الاغاني العربية الشائعة، الواسعة الانتشار. ليس من خلال اللهجة المحلية للأغاني، وليس من خلال اسم المغني، بل بسبب من الايقاع المتفرد، واللون الموسيقي الخاص. وأياً كانت الأجهزة التي تعزف ذلك اللحن، فإن الخصوصية الخليجية تبدو ظاهرة في الايقاع. ومع ذلك فقلما يعرف العرب عامة والخليجيون أنفسهم، خاصة الأجيال الجديدة التي تربت ذائقتها الموسيقية على الموسيقى الغربية الجديدة والاغاني العربية الشائعة، التراث الموسيقي الخليجي في خصائصه وجذوره. وقلما نجد لونا واحدا من ألوان العديدة قد طور لذاته، واكتسب قالبا معاصرا يعبر عن روح الخليج وتطوره. ولعل فن (لفجري) هو أقلها نصيبا على هذه الموائد، كونه فناً بحرياً ارتبط بمرحلة من حياة الإنسان في الخليج، كان البحر فيها مصدر الحياة والموت معا، وكان الإنسان بين المرحلتين جبارا وحانيا، سيدا وعبدا، فارساً ومطية. وقد سمي كذلك، لأن السمر به يمتد حتى الفجر، ولأنه تفجير لكوامن النفس. ??? لفجري تميز فن (لفجري) بين فنون السمر الجماعية في البيئة البحرية لمنطقة الخليج بارتباطه بفئة عمال البحر، فحين نستمع إلى التسجيلات العشوائية التي احتفظت بها الإذاعات الخليجية وتبثها من حين لآخر، تكاد تسمع فيها صوت النهام وتلون إيقاع حنجرته، هدير البحر وأهواله، معاناة الغواصين وحنينهم للأهل، بل إنك تسمع صرير الصواري وضربات المجاديف ورفع الأشرعة وجر المراسي، ثم تلف عليك (اليامال) أشرعة الوحشة في غياهب المجهول. ومع كل ذلك فإن الفجري يغنى على اليابسة في أوقات راحة البحارة وخارج مواسم الغوص على اللؤلؤ، كما لو أن حفلات السمر هذه استرجاع للحظات المعاناة، والبحث بينها عن المسرات، وتجريع (من جرعة) الروح قطرات من قدرة احتمال الشدائد. و«لفجري» هو الذي نسميه عادة موسيقى الغوص. ولأنه امتداد للموسيقى الشرقية، فهو يتميز بالثراء في الإيقاعات، وكثرة المقامات الموسيقية وسلالمها وتصويراتها الكثيرة. فهو يحتوي على ثمانية عشر مقاما موسيقيا، ينتقل فيها المنشدون بصورة عفوية. لكنها محكمة في تناسقها ومنطقها. وتتميز إيقاعاته بطابع تعبيري عجيب يشعر المستمع بمعاناة الانسان الخليجي مع البحر وأهواله ومكابداته في صراعه مع الطبيعة لانتزاع لقمة العيش. يتبع... hamdahkhamis@yahoo.com