هل العالم أمام حضارة أتقنت هندسة الأبراج، ونسيت هندسة تهذيب النفوس؟ وهل البشرية تمر بعصر أصبح تقدم الأمم يُقاس بالناتج المحلي، وليس بعدالة توزيعه، واحترام تصنيف الإنسان قبل كرامة الإنسان! هل الهزيمة الأخلاقية قدرٌ أم خيار؟ وخاصةً عندما يتجاوز التطور التكنولوجي والمعرفي التطور الأخلاقي بعشرات السنين الضوئية، ولذلك يتم بناء المستشفيات من أجل علاج المرضى، ويتم إنتاج كل ما يقود للمرض لكي تكون هناك صناعة مرتبطة بالأمراض! فالأخلاق أصبحت قيماً سائلةً قابلةً للتبخر، ولهذا هناك من يتابع الحروب مثلما يتابع المباريات الرياضية والأفلام، دون أن يشعر بأي فرق جوهري بين المشهدين، عندما يقلبون قنوات التلفاز، وهي بالنسبة لهم مصادر للتشويق، وهناك من يتشدق بحقوق الإنسان ليذهب بعدها ويشتري بضاعةً أو منتجاً يتسبّب أو يساهم في تمويل قتل أو استعباد الملايين من البشر في مختلف القارات، دون أن يفكر للحظة هل ما يحدث أخلاقي أم لا!
تحول الوعد بالتقدم، وحضارة لم تسبقها حضارة أخرى إلى فخ، وأصبحنا أسرى أنظمة اقتصادية ومالية مغلقة، وخوارزميات تتحكم في أحلامنا وأذواقنا، وما نحب وما نكره، حتى أصبح الهروب من الحرية أقرب إلى الحرية الحقيقية بعيداً عن الأمان الوهمي لنجد أنفسنا محاصرين بالتقدم والتطور، وهما بمثابة آلة تنتج الاغتراب، ونعيش في مدن تبدو بهيجة ومتلألئة، ونحمل بداخلنا مدن الخراب وفي صدورنا فراغاً وجودياً لا تملؤه تطبيقات التواصل الاجتماعي، ومع وصولنا لذروة الحداثة، ودخولنا عصر ما بعد الحداثة تكشّفت أمامنا الحقيقة المرّة، وهي أن ما نراه ازدهاراً غير مسبوق ليس سوى قناع هش يخفي وراءه انسداداً أخلاقياً يتسع يوماً بعد يوم.
وفي الطرف النقيض بعض المجتمعات لا تملك تربية أبنائها بين أب وأم منغمسين في أعمالهم لكسب لقمة العيش، وليس لذلك فحسب، بل لمجاراة بقية المجتمع فيما يفعلونه ويرونه رقياً، ولم يعد الالتزام بالمبدأ غاية للإنسان المعاصر، ولم يعد الفساد كسراً للقاعدة، بل هو القاعدة نفسها. وهناك مجتمعات تشرعن القمع الأخلاقي، وتعيد تشكيل قناعات الفرد وما يؤمن به.. والأخطر من ذلك أن الإنسان الحديث لم يعد يرى في ذلك مشكلةً، وهناك استسلام كلي من البشر لنمط الحياة الحالي، وكأنهم منزوعو الإرادة الأخلاقية، ولا يلتفتون أو يعيرون أي اهتمام لقيمة خارج المصلحة، وكم وماذا نملك!
إذاً القيم أصبحت سلعةً تباع في المزادات المجتمعية، ومنحت التكنولوجيا البشرية وجهاً آخر للإنسانية ورقمنة القيم، وإذا كان التاريخ سيدون يوماً سيرة الإنسان المعاصر فسيكتب بمرارة: هزم الإنسان نفسه عندما أعتقد أن التقدم العلمي والصناعي والتكنولوجي يغنيه عن التقدم الروحي والأخلاقي. وأصبحت البشرية معلقة بين النجاح المادي الباهر والإفلاس الأخلاقي المرعب، وكلما ارتقى الإنسان في الصناعة والتقنيات الفائقة سار بقوة نحو الانحطاط في قيمه الإنسانية، وأصبحت «عبادة» التكنولوجيا الجانب المظلم من ضمير الإنسان الذي لم يعد حياً ولا ميتاً!
فالأمر الذي يجب أن تتوقف عنده المجتمعات لفترة طويلة، وأن تتوقف عقارب الساعة من أجله هو تبرير الظلم والجرائم، وعدم النزاهة واختلاس وسرقة الأموال بالضرورات السياسية والاقتصادية، وهو السائد في العالم والقانون يحمي تلك الممارسات، بل التشريعات الدولية والمجتمع الدولي لا يحرك ساكناً حيال ارتكاب جرائم التطهير العرقي والإبادة الجماعية، وقيم الإنسان ومكانته أصبحت تقاس بعدد متابعيه على وسائل التواصل الاجتماعي. ولم تعد الأخلاق نظاماً داخلياً يرشد الفعل، بل هوية افتراضية، واختزال جوهر الإنسان عبر بث فيديو أو صورة، لتتحوّل الأخلاق لمساحيق خارجية مخالفة للواقع.
لقد أفرزت الثورة الرقمية شكلاً جديداً من الأخلاق «السهلة» ليدين بعضهم قتل الأطفال في غزة «بهشتاق»، ثم يخرج للسهر والمتعة في انفصال قيمي غير مسبوق، وهناك من يبارعون في إدارة الانطباعات، وإظهار ما يعجب الناس ويخالف طبائعهم، والمتاجرة بالفضيلة كسلاح تصفية ليتم ابتذال الشر، حيث تتم إدانة الخطيئة لا لكرهها لها، بل للتعطش إلى الإحساس بالتفوق الأخلاقي، بالرغم من أن الأخلاق الحقيقية ليست ما يتم عرضه، بل ما تعيشه المجتمعات حين لا يراها أحد، فهل ستجرؤ على نزع الأقنعة؟ أم ستظل هذه المجتمعات ترقص في كرنفال الفضائل المزيفة؟!
*كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات.