قبل عشرين سنة رحل الفيلسوف والأديب التونسي محمود المسعدي الذي كان نموذجاً فريداً في الساحة الثقافية والفكرية العربية من حيث منحى النظر ونوعية الكتابة وطبيعة أسلوب التعبير.
عندما أصدر مسرحيته الشهيرة «السد» في نهاية الخمسينيات، احتفى بها طه حسين، واعتبرها فتحاً جديداً في العمل الإبداعي العربي من حيث اللغة التراثية الرصينة، والأفكار الفلسفية العميقة التي تندرج في نطاق الموجة الوجودية المسيطرة وقتها، إلى حد التقارب مع رائعة البير كومو «أسطورة سيزيف».
وعندما نشر روايته «حدث أبو هريرة قال» في بداية السبعينيات بعد عقود من ضياع هذا النص الفريد، كانت شكلاً متميزاً من الكتابة الإبداعية، غلب عليها العمق الفلسفي، من حيث معالجتها لمواقف الإنسان الوجودية المتقلبة ما بين تجارب الجسد والسياسة والدين.
لم يكن المسعدي بدعاً من الأدباء العرب الذين اشتغلوا بالتأمل الفلسفي، وفي مقدمة هؤلاء الشاعر والكاتب اللبناني جبران خليل جبران الذي أصدر كتاب «النبي» سنة 1923 على غرار رائعة الفيلسوف الألماني نيتشه «هكذا تكلم زرادشت».
ومع أن العديد من كتاب الرواية والشعر سلكوا مسلك التأمل الفلسفي، ومن بينهم عميد الرواية العربية نجيب محفوظ، وشاعر القضية الفلسطينية محمود درويش، إلا أن الكتابات الأدبية الفلسفية ظلت محدودة نادرة في الساحة العربية.
لا بد من التنبيه هنا أن الأدب شكل منذ فجر التفكير الفلسفي طريقة أساسية من طرق هذا التفكير، بدءاً من قصيد برمنيدس الذي يحمل عنوان «في الطبيعة»، ومحاورات أفلاطون الشعرية. ومع أن أفلاطون نفى الشعراء من جمهوريته، واعتبر الشعر نمطاً من التعبير الخرافي المناهض للعقل والبرهان، إلا أنه وظف الاستعارة والأسطورة والمجاز الأدبي في بلورة ونشر أفكاره الفلسفية.وفي التقليد الإسلامي، بلغ الأدب الفلسفي مكانة عالية على يد فلاسفة معروفين، أمثال ابن سينا وابن طفيل، ولدى أدباء متفلسفين من نوع أبي حيان التوحيدي والجاحظ، بالإضافة إلى الأدبيات الصوفية العرفانية والتي جمعت بين النظر الفلسفي والمجاز التعبيري الأدبي.
ومع بداية عصور الحداثة، أصبحت الرياضيات الصورية نموذج الكتابة الفلسفية، بما نلمسه بوضوح في كتابات ديكارت وسبينوزا ولايبنتز، إلا أن حقبة الأنوار الموالية شهدت طغيان الرواية الفلسفية التي ظهرت بقوة لدى فولتير وروسو ومونتسكيو.
لقد اعتبر فلاسفة الأنوار أن الجمهور العريض غير قادر على استيعاب الأفكار الفلسفية المجردة، ومن ثم ضرورة تقريبها للعموم من خلال العمل السردي والأسلوب الأدبي واسع التأثير.
وفي نهاية القرن التاسع عشر، برزت كتابات الفيلسوف الألماني نيتشه التي غيرت مجرى التفكير الفلسفي، بنقده الجينالوجي ومنهجه التفكيكي الجذري ونزعته التهكمية الراديكالية. وبقدر ما كان نيتشه فيلسوفاً كبيراً، كان في الوقت نفسه شاعراً متميزاً، جميل الأسلوب، حلو العبارة.مع نيتشه رجعت الفلسفة للشعر، إلى حد أن هايدغر اعتبر أن الشعر هو أسمى مستويات الفكر، وغالباً ما يتقدم على الكتابة الفلسفية نفسها في الكشف عن معنى الوجود. الشعر حسب عبارة هايدغر هو «المكان الذي تتجلى فيه الحقيقة الأصلية»، وهو الأفق المقدس الذي يرتاده الأديب ويعبر عنه. ومن هنا ندرك شغف هايدغر بشعراء من أمثال هولدرلين ورنيه شار، حيث اعتبرهم المصدر الأعمق للتفكير الفلسفي في إشكالاته الراهنة.
في الاتجاه نفسه، يقف بول ريكور عند تجربة السرد باعتباره أكثر من مجرد إبداع أدبي، بل هو نقل للزمن من بنبته الطبيعية وانغلاقه الوجودي إلى الكينونة الإنسانية الحية. السرد ليس تخيلاً خارج الواقع، بل هو إعادة بناء للمعنى والدلالة، وخلق لمعان مبتكرة، واستكشاف لعوالم معيشة قابلة للسكن والارتياد.
الملاحظة التي لا بد من التنبيه إليها هنا، هي أن جل المشتغلين بالفلسفة من العرب المحدثين، اعتمدوا العلم التجريبي والمنطق التحليلي نموذجاً للكتابة الفلسفية، بدلاً من الأدب الذي نظر إليه إجمالاً باعتباره شكلاً من التعبير البياني الذي لا مكان له في الخطاب الفلسفي.ومع أن عبد الرحمن بدوي بدأ إنتاجه الفلسفي الغزير بكتابه الأدبي الجميل عن «نيتشه»، واهتم كثيراً بالأدب والشعر، إلا أنه خلص إلى التمييز الهيغلي الشهير بين جمالية الأدب الاستعارية، وعقلانية المفهوم الفلسفي كطريق وحيد للوصول إلى الحقيقة المطلقة، في حين ميز محمد عابد الجابري بصرامة بين العقل البياني «الأدبي» والعقل البرهاني «الفلسفي».
السؤال الذي نختم به هو: ماذا لو كان طريق الإبداع الفلسفي العربي يتم ضرورة عن طريق الشعر والأدب كما كان يري محمود المسعدي، لا عن طريق العلم والبرهان المنطقي كما اعتقد آخرون؟


*أكاديمي موريتاني