برزت قوة الدولار الأميركي على مستوى العالم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية في عام 1945، إذ كان العملة الاحتياطية الرائدة في العالم وقتها. وفي الربع الأخير من عام 2023، كان نسبة 58.4% من احتياطيات البنوك الأجنبية المخصصة مقوَّمة بالدولار الأميركي. ويحدد الباحثون ثلاثةَ أسباب رئيسية لاستمرار هيمنة الدولار الأميركي على المرتبة الأولى عالمياً كعملة احتياطية. والسبب الأول يعود إلى عناصر «القوة» التي تمثلها الولايات المتحدة الأميركية على كافة المستويات، والتي يدعمها نمو اقتصادي قوي ومستمر. والسبب الثاني يتعلق بالطبيعة الديمقراطية للحكومة الأميركية ومؤسساتها، إذ يثق المجتمع الدولي في استقرار الهياكل الحكومية الأميركية. أما السبب الثالث والأخير فهو صعوبة تغيير هيكل التمويل العالمي الذي يدور حول الدولار وأسواق رأس المال الأميركية.
وتاريخياً، تمت طباعة أول دولار أميركي في عام 1914 بعد إنشاء بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي. وفي عام 1944، خلال الحرب العالمية الثانية، اجتمع ممثلو 44 دولة حليفة، في مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية وكندا وحلفاؤهما الأوربيون، إلى جانب أستراليا وغيرها، في مدينة بريتون وودز بولاية نيو هامبشاير الأميركية، بهدف تطوير نظامٍ لإدارة النقد الأجنبي العالمي. وقررت الوفود أن عملات العالم لن تكون مرتبطة بالذهب بعد ذلك التاريخ، بل بالدولار الأميركي، وذلك من خلال اتفاقية «بريتون وودز» التي أرست - ولأول مرة - دعائمَ نظام نقدي عالمي. وقد أدى ذلك فوراً إلى إنشاء سلطة البنوك المركزية التي مِن شأنها أن تحافظ على أسعار صرف ثابتة بين العملات الوطنية والدولار الأميركي داخل الدول، بجانب الدور الذي يطلع به كلٌّ من صندوق النقد والبنك الدوليين. وانضمت كافة الدول تباعاً لذلك النظام النقدي العالمي، وتم استبدال احتياطيات الذهب باحتياطيات الدولار الأميركي.
إذن نحن أمام نظام عالمي للنقد تم تأسيسه خلال أوضاع عالمية كارثية تمثلت في الحرب العالمية الثانية، وترسخ على مستوى العالم أجمع لثمانية عقود، وهو قائم على عملة واحدة تمتلكها وتقوم بطباعتها والسيطرة عليها دولة واحدة، هي الولايات المتحدة الأميركية. ولعل ذلك ما دفع بعض الدول مؤخراً، وخاصة منذ انطلاق العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا والتصعيد اللاحق من جانب مجموعة السبع في استخدام العقوبات المالية، إلى طروحات «التنويع بعيداً عن الدولار». ومن هنا برزت قوة مجموعة دول بريكس التي تسعى إلى استخدام العملات الوطنية في التجارة والمعاملات وإنشاء أنظمة دفع جديدة عبر الحدود بهدف إنشاء نظام مالي متعدد الأقطاب. وقد قادت الصين هذه الجهود من خلال التعجيل بتطوير نظام الدفع بين البنوك عبر الحدود، وهو آلية تسوية الرنمينبي. وقد تأسست المجموعة بوساطة كل من الصين وروسيا والبرازيل والهند وجنوب أفريقيا، ثم ضمت في العام الماضي كلاً من السعودية والإمارات ومصر وإيران وإثيوبيا.
وقد اتفقت مراكز بحثية أميركية على اعتبار مجموعة بريكس تحدياً محتملاً لوضع الدولار على مستوى العالم. لكن يبدو ذلك بعيداً، في المدى المتوسط على الأقل، نظراً لما يمثّله الدولار من قوة نقدية ثابتة عالمياً. ويكاد يكون السيناريو الأقرب لنجاح مساعي بريكس هو انهيار النظام الاقتصادي الأميركي نتيجة استمرار تنامي حجم الدَّين الأميركي الحكومي الذي بلغ مؤخراً 35 تريليون دولار الأمر الذي يؤثر بقوة على قدرة الحكومة الأميركية على الاستجابة بفعالية لأي انكماش أو ركود اقتصادي مستقبلي.د

*باحث إماراتي