ذات سفر عجب، بدأنا رحلتنا تلك قبل أعوام أنا وصديقٍ لي في مهمة عمل نحو عدد من المدن الأوروبية، وفي وسط ديسمبر رحلنا، وكنّا نحسبه لم يفرض عليها الثلج بسطوته وشدته، وإذا به يطمس معالمها طمساً، فليست هذه لندن كما حسبناها، ولا المدن تلك سوى محطات عابرة بصعوبة من أنباء الوقت المجهول، الذي يتربص بنا على غير عادة الترحال والسفر المكتظ أحياناً.
قلنا لا وقت للتروي، يباغتنا الوقت بعجلة من الأمر للانتهاء مما طلب منّا، ولنشحذ الهمم بيننا بالصبر، ونتحمل مشقات السفر، وبيننا تناقض جميل وحفيف من الأفكار تحلّق في خفاء، كنت أقول لماذا صديقي يحمل حقيبة واحدة، أضجر هو من الحقائب أما ماذا؟، ولما أنا مثقل بحقائب من الشتاء، خشيت من تقلب السماء والطقس بين طرقات المدن وصمتها، حيث يدثرها الصقيع، والماء يندلق من نوافذ الطائرات، ينثال بين جناحيها، بينما ينشدنا سفر المهمات الملحة.
مدينة لوكسمبورغ، بيضاء ناصعة، يسكنها الجليد ويتمرد عليها، ونحن قد خدعنا قبل المجيء بصور الفندق الزاهية، وإذ به قديم البناء إلا أنه يورث الدفء، ويكمن فيه ماضي القارة العجوز، قلت لا تكترث يا صديقي ليلة ونغادر، وإذ بالمصعد يبدو كغرفة خشبية يجرنا صعوداً، ويحبس أنفاسنا ببطئه، ماضين في العلو، تحاكينا أفلام الستينات بإطلالة من غرف مسكونة بشخوصها، ونظرات وجوه في صور معلقة تحدّق وتبتسم، وتعبس مرات، حيث تجسِّد التعبُ، أو شيءٌ من وحي الخيال والتخيل.
في الصباح تناولنا الإفطار، ووفد إلينا الموظف المناط باجتماعنا به، واستقللنا سيارته في اتجاه المكتب، ما مضينا سوى ساعات في منظومة تؤثر العمل، ولا تبالي بما يلم المدينة من أمر.
كالعادة في المساءات، نشد الرحال، كانت رحلة قصيرة، حيث هبطنا بمطار أمستردام، لم يكن الفندق كالسابق، كان أكثر أناقة، أنهينا مهمتنا كما لو أن الوقت يطاردنا نحو محطة القطار إلى مدينة فرانكفورت، كانت نوافذه تطلّ على بانوراما من البياض، وفجأة تعطل عن الحركة، وبعدما أتم التقني مهمته، مضى القطار يشق طريقه الثلجي الجميل بين غابات توحي بالجمال، وها هي نهاية رحلة، ووصول اشتدت فيه الثلوج وسط المدينة، وتكومت بالطرق، والسيارة تكاد لا تصل بنا.
بعد عناء، صرنا نسير بين ساحة المدينة ووسطها، بمحاذاة الأوبرا والمسارح والأسواق، التي بدت تحتفي بعرسها الأبيض، قبيل أن ننهي رحلتنا بشغف إلى روما، نودع عناء المطارات المكتظة بالبشر من جراء تأجيل رحلاتهم، إلا أن روما بعيدة كل البعد عن بياض الثلج، تجلس مطمئنة في دفئها.