أفتش عن الأمل في قاع بئر عميقة، لعلي أجد قطرة الماء التي تروي سؤال العقل، وترمم الشقوق في الذاكرة المعطوبة. وكنتُ قد رميتُ حبالاً كثيرة في أراضي الجفاف، وكان الدلو يأتي فارغاً في كل مرة. وكنتُ قد انتظرتُ الأمل أن يسطع بعد حُلكة الطريق، لكن العتمة ظلّت تمتدّ منذ الطفولة، ولا أُفول يبدو لاستمرارها. حسناً، سأظل أمشي حتى نهاية النفق بحثاً عن الضوء الجديد. لكن الضوء يجب أن ينبع من الداخل أولاً، من الشعور بأنك كلما كَبِرت، تحررت من الوهم. هكذا علّمتني الوصايا والكتب القديمة، لكنها ضاعت اليوم، ولم يبقَ في يدي سوى الآلة التي تفكّر وتشعر وتسيّر وجودي كيفما تُريد. فهل أنا حر؟ بالتأكيد لا.
أُطارِد اليقين كما يُطارِد عصفورٌ خوصةً من القش في زمن العاصفة. اليقين الذي كلما أمسكتُ بطرف حبله، تسرّب من بين أصابعي كالماء. كنتُ في الماضي أستجدي الحقيقة، ظاناً أنها تُعطى، لكني أدركتُ اليوم أنها يجب أن تُنتزع لتصير مُلكاً لي. ها هو القوي صار سيداً على الحقيقة وراح يكتب تاريخها بيده، وها هو الضعيف يتمرّغ في النسيان ويسقط خارج فكرة الزمن. والأغرب أن الأشياء التي كنّا نعرفها بالأمس، ليست هي نفسها اليوم. إذاً، أمام تبدّل الحال والمعنى، أي حقيقة تبقى؟
هل توجد الحقيقة في الشعر؟ عندما يذهب الشاعر إلى لملمة أنقاض المعاني المهملة ويعيد صياغتها من جديد، هل يتبدّل الواقع؟ وعندما تكتب شاعرة قصيدة ضد الموت، هل تتحرر منه حقاً؟ ربما لا يغيّر الشعر مصيرنا، لكنه على الأقل يبدّل زاوية النظر إلى الوجود. إنه في العمق ينقلنا إلى الشعور بحياة أخرى تقع في البُعد المطلق لأحلام الإنسان الكبيرة، حيث الفرد يملك أن يصنع مصيره بيده. نعم، هناك حياةٌ أخرى داخل اللغة التي نسكنها وتسكننا. إذ باللغة أيضاً نرى العالم ونستطعم العيش فيه.
أفتش عن الأمل، وأطارد اليقين، ولكن لا أصل إلى شيء. وكما الطفل يبني قصراً من الرمل، ثم تهدمه الموجة العابثة، أنثر كومة من الكلمات على المسافة بين الحياة والموت، وأبني بها عواصم أو قرى للباحثين عن ذواتهم الضائعة. لكن العاصفة، بغرورها الفجّ، تهبّ لا محالة لتهدم المعاني الهزيلة، وتقشع الأفكار التي لا أساس لها، وعلينا أن نظل نبني غيرها من جديد.