كان طويلاً، نحيفاً، بعظامه القاسية والبارزة مثل حطب السمرة اليابسة من العطش، أنف مستدق، وعينان لا تكاد تغمضان حتى في نومة القايلة الثقيلة التي يعشقها، ولحية «مخنيرة» وشوارب محفوفة، لم يسمح لها أن تبيّض يوماً، خوف أن يشعر بالوهن أو يطمع من يريد أن يطمع، يصطبغ بسمار الشمس المحروق التي بقيت تتعامد على وجهه منذ الصغر، فأيام ذلك الرجل لم تكن سهلة، ووقته كان صعباً، كان لا يجيد عملاً، ولكن إذا ما تولى أمراً أنجزه، ولا يقول لشيء أني غير فاعل ذلك أبداً، قد يبيع بندقية فيربح منها أو يُدَخّل له في السوق رأسي غنم فيكتفي بما يجد، قد يهبط لسوق البريمي لأن خنجراً منعوتة له، وتساوي الكثير، فيتعب نهارها حمارته، كان يتكسب من الذهاب إلى السوق البسيط منذ الصباح الباكر بعد أن يتناول فطوره المعتاد، سح فرض وربع دلة قهوة مرة، وما تيسر من فتات الخبز والسمن والعسل، تلك كانت تصبيرة النهار بطوله قبل أن يرجع من السوق على حمارته الصابرة جالباً سمكتين أو قطعة لحم من صديقه القصّاب أو سمكاً مالحاً أو عوالاً إذا ما استطاع بيع حزم الرويد وبصل «اليويف» الأبيض أو اللومي الأخضر من «نخله»، أما إذا كان محصول «الجت والمسيبلو» وفيراً، أو قدر أن يبيع كل يلبة الغليون الحار، فقد يتقضى نهارها من دكان «الشيرازي» مقاضي قد تكفي بيته، وزوجته التي كانت دائماً على هيئة عجوز شهراً بطوله.
بقية يومه كان يسير مثل وقت الرجال في تلك الحقبة الموغلة في زمن الجوع والرماد، بين المسجد والبيت والنخل أو في منازعات صغيرة ليس من ورائها جدوى أو يذهب مع الهدّادين لخطبة فتاة لرجل يعدّونه «هاب ريح» ويعيش من زنده، قد يبات يحرس معهم بيوتاً من سعف خوف غارات من الجنوب.
كان يعتمر بعمامة كبيرة على رأسه الصغير اليابس والذي يزلقه بالموس كل أربعاء، إذا لم يحْتَلّ بالحلول أو يتحجم على يد المطوع والمحجم «بن بخيت»، كانت بندقيته الصمعاء على كتفه، وخنجره يمنطق بطنه مع محزم يتخالف تحت الصديري الصوفي، وقلما يخلو من الرصاص، وعصا خيزران معكوفة لا تفارق يمينه، تتساءل أحياناً لِمَ كل هذا الثقل؟ وحدهم من عاش في زمنهم يعرف قيمة تلك الأشياء ولزوم أن تكون في قبضة اليد في حَزّتها.
كان يمكن أن ترى «جمعة بن حارب» في حطاب، وفي حرق ودفان الصَخّام، في الطرشات، وفي جنّي الجراد، وفي يداد النخل، وفي الفزعات، ولو كانت على دون حق، حينها يترك حمارته الصابرة مرصوغة تحت شجرة النبق الكبيرة، ويعتلي من شدائد الإبل، ليظهر وجهاً آخر مُدخناً بالغضب، وعيوناً حُمر تقدح بالشرر، كان يمكن أن يفقد أحدهم حياته في سبيل مراوغة، وحرب صغيرة طائشة، لكنها تساوي أن يقول الناس بعده: «والله والنِعمّ»!
كان ظل «جمعة بن حارب» يحرس تلك الحارة في ذاك الوقت، يكفي صوته، وغضبه الذي يرسله في الدروب، وتتناقله ثرثرات النساء ليصبح شيئاً من الأسطورة السائرة في تلك الحارة في أم سبع البلادين.