كنت في شيشة البترول عندما طرق العامل نافذة السيارة وسألني: «مدام يريد تنظيف مكينة.. إذا يركب هذا زيت سيارة إمشي مية مية»، نظرت إليه فإذا بوجه سمح أوصلتني ملامحه بأهله وذويه والمنطقة التي نشأ بها وكون في أزقتها أجمل ذكريات طفولته وشبابه وقلت في خاطري:«اجبري خاطره»، هززت رأسي وقلت له:«الحين أنا ركب بس بيشوف كيف سيارة يمشي فيرست كلاس والا إيكونومي!»، ضحك وكأنه فاز باليانصيب وفتح قصعة تحتوي على سائل لتنظيف المحرك أفرغه في الخزان، ثم وضع خرطوم البترول ومضى يخدم سيارة أخرى «الفكرة التي جالت في أروقة عقلي أن لدى هذا الشاب مؤشرات أداء وأنا أقود سيارة ستكون في العشرين من عمرها العام المقبل.. وأن السعادة أخير من التعاسة بكثير، ولم أنس أهل ذلك العامل في وطنه»، فتذكرت أني قرأت ذات مرة عن العناصر المكونة للسعادة ومنها: الابتسام والعطاء وتقديم المساعدة والثناء والتحفيز والاهتمام بهم بالسؤال عن صحتهم وعيالهم وأهلهم. عندما امتلأ الخزان بالوقود جاء وبيده آلة الدفع وقال:«سوري مدام زحمة واجد.. زياد سيارة آخر دوام بكرة إجازة، لكن إذا يريد أنا نظف جام مال سيارة الحين»، قلت له:«جزاك الله خيراً وسلم على الأهل». علمتنا أمي - الله يرحمها - أن نحب كل شيء خلقه الله، وكانت تقول:«لله في خلقه شؤون»، لا تحرموا الآخرين من كرمكم، فنحن لا نعرف في أي فلس من الدرهم تقع البركة وتلبى الدعوات.
في سوق مكتظ سرت أبحث عن موقف، وجاء التوفيق بأن سيدة وزوجها ركبا في سيارة أمامي فأطلقت إشارتي دلالة على انتظاري خروجهما في تلك المساحة، وجاء عامل التنظيف يطلب من الرجل 30 درهماً مقابل ما قدمه من عمل، فالسيارة كانت «تلق» وكأنها غادرت معرض بيعها لأول مرة، وليت سيارتي كانت كذلك. خرج الرجل من السيارة وسار يحدق في كل زواياها وفي الإطارات وتحتها وفوقها، والناس من حولي تخرج وتدخل في مواقفٍ مختلفة، وأنا مصرة على ذلك الموقف المليء بالمواقف المحرجة. بعد مضي 10 دقائق تركت الموقف لأني ومنذ زمن بعيد قررت أن التلوث البصري مضر للعقل. واستذكرت حديث رسول الله ﷺ: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء». وهناك مقولة قرأتها في طفولتي هي أن «الرحمة نصف العدالة».
للعارفين أقول، كتب خورخي لويس بورخيس «كنتُ أقول لطلّابي: إذا أقلقَكم كتاب، اتركوه، هذا الكتابُ لم يكتب لكم، القراءة يجبُ أن تكونَ شكلاً من أشكالِ السّعادة». وهناك أمر إلهي للقراءة، فهي ما يجذب المعرفة والقيم الإنسانية والسعادة.