في أغلب الأحيان، يكون الكثيرون فرائس لتفسيرات خاطئة في علاقاتهم بالأبناء، مما يجعلهم في حالة توجس، وخوف، وارتباك، واضطراب وجداني وعقلي، بمبررات، ومسوغات ما أنزل الله بها من سلطان، وهذا ما يفجر العلاقة ما بين طرفين من طورين، وجيلين، ومنطقتين مختلفتين في التفكير، والإحساس، والثقافة، والأداء الأخلاقي، ويتبع ذلك انحرافات خارقة للصوت، والسمع، والبصر، الأمر الذي يصنع ثغرات واسعة في التواصل، وفجوات كأنها الحفر العميقة، وجفافاً عاطفياً بين طرفين يعيشان تحت سماء واحدة، وعلى أرض مشتركة، وتجمعهما أواصر الدم، وتفرقهما حروب عاطفية وكروب، وتصبح الحياة خرقة قديمة، ممزقة، وبالية.
بعد كل هذا الغبار، المتراكم على الصدور، والسعار المحتشد في القلوب، نسمع عن تنمر الأبناء، ونسمع عن جرائم أخلاقية، ونرى صوراً مقلوبة لواقع إنساني، نرى وجوهاً كالحة، وعيوناً شاخصة، وأفواهاً مفغورة، ونفوساً مكلومة، وقلوباً مفطورة، وعقولاً مخدوشة، وأرواحاً تطير في فضاءات مغلقة إلى الاختناق. ما العمل إذن؟
إذا لم نتفق على أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش في زمنين في زمن واحد، وأن الكبار بإمكانهم أن يتفهموا تجارب الصغار؛ لأنهم عايشوا تجربتين، وأن الصغار لا يمكن محاسبتهم على أنهم خرجوا عن الطوق فقط لأنهم لامسوا حدود المدى في مرحلة وعصر واحد هو عصرهم ولا دراية، ولا معرفة، ولا وعي ولا مرور في عصر من سبقوهم، إذا لم نع هذه المحصلة التاريخية، فإننا نكون قد زرعنا المتفجرات في طريق جيل ما بعدنا، ومن هم جاؤوا بعد عقود من زمن مجيئنا، ونكون قد هيأنا الواقع المجتمعي لحالات انزلاق غضروفي في عقول الأجيال، ومهدنا الطريق لسقوط طائرات محملة بعقول لا تعرف عن الماضي وظروفه شيئاً، بل أجيال جاءت ووجدت نفسها في قلب واقع يتميز بمعطيات مختلفة، وتطلعات لا تتصف بمميزات الماضي، وأخلاق تحتاج إلى فهم تفاصيلها من قبل الكبار، والوعي بأهمية قراءتها بحصافة، ونبوغ، وبلاغة لغوية وفكرية، وثقافية، لا بد من فهم دورة المراحل التاريخية، والقبض على القفزات التي تحدث بين كل مرحلة وأخرى، وألا نزايد على الصغار، ونطالبهم بأن يكونوا نسخاً صماء من الجيل الذي سبقهم؛ لأننا في هذه الحالة نكون قد محونا عناوين سبورة الحاضر وأبقينا الماضي وحده الذي يسدد فواتير المراحل الثلاث، فلا حاضر يصمد ولا مستقبل يشرق، بل سرمد الحياة هو ذلك الصامد الهامد، الخامد، اللا متئد، المحتد المعتد ببقائه، وهذا مخالف لقوانين الطبيعة، وما تتطلبه من ضرورة التحولات لكي تستمر الحياة طيعة معطاءة، سخية، وضاءة، مشرقة، حالمة بالجمال، متطلعة إلى إبداع العقل فلا يمكن لهذا العقل النمو، والنشوء والارتقاء من دون حرية التحول من منطقة رمادية إلى أخرى ناصعة، ومن عالم أدى دوره وتلاشى وعالم آخر يتخلق، وينشأ، ويتطور، ولولا هذه القاعدة في الكينونة، لاندثرت الحضارات، وتوارت الثقافات، وانطفأت مصابيح الحياة وصرنا في عداد المفقودين.