هناك بعض المدن تتسلل إلى داخلك، وتكون من المحظيات، السفر لها قد يتأخر أو يتعذر، لكنها تبقى ساكنة في قاع الذاكرة، لأن لها مودة لا تعرف من أين أتت، أو تسربت لك، صقلية واحدة من تلك الأماكن التي ما برحت ترسل إشاراتها التاريخية قائلة: ربما تأخرت كثيراً.. أيها المسافر دوماً، فمثلي عادة لا يستبطئ إلا المحبين!
وصلتها بحراً كما تشتهي الجزر أن يقرع الزائر بوابة مراسيها، ولأن التوق لها قديم، كانت كل تخيلات ما قبل الوصول لها متدافعة، وحالمة لعلك تقدر أن تقبض على شيء منها، خاصة وهي العصيّة على من دخلها عبر الأزمان، لأنها تشبه صخرة قاسية في البحر كتضاريس جغرافية دائماً ما تغلبت على طموحات التاريخ، ونزوات ونزقات المحاربين.
صقلية هي أكبر جزر البحر المتوسط، مثلثة الشكل، لها طابع الحكم الذاتي وتابعة لإيطاليا بعد أن حكمها المسلمون قرابة مائتي عام، بين 965 - 1091 م، في حين كان دخولها الأول على يد حاكم تونس «أسد بن الفرات» من دولة الأغالبة التي تتخذ من القيروان عاصمة لها عام 827 م، فهي تبعد عن تونس قرابة 140 كلم، أما الذي أسّس صقلية كمملكة فهو «روجر الثاني» عام 1130 واستمرت حتى عام 1816 م، حين اتحدت مع مملكة نابولي، وتسمت مملكة الصقليتين، تعود تسمية صقلية لكلمة «سيك»، وهو مصطلح ذو جذور هندية جرمانية، ويعني النمو والتوسع، أما في اليونانية، فيشير إلى بعض الفواكه سريعة النمو، مثل اليقطين «سيكوس» أو التين «سيك»، وبذلك يكون مسمى صقلية يعني «أرض الخصوبة» أو «جزيرة الخصوبة»، مساحتها تقريباً 26 ألف كيلو متر مربع، وسكانها في حدود خمس ملايين نسمة، وعاصمتها «باليرمو»، عند توحيد إيطاليا سقطت مملكة صقلية، وانضمت للاتحاد الإيطالي وحصلت على حكم ذاتي، دخلتها المسيحية عام 200 م، وبقيت حتى عام 313 حين حظرت المسيحية في البلاد، وبقيت كمقاطعة رومانية 700 سنة، تتحدث اللغة العربية الصقلية، وهو مصطلح سائد في جزيرتي صقلية ومالطا، بحيث كعربي مشرقي أو مغربي يمكنك أن تفهم تلك اللغة إذا ما انصت بعمق، وتفكرت بتدبر في لهجة تجمع في الغالب الدارجة المغاربية، وبعض من العربية الفصحى، وهناك الكثير من المفردات تحمل إيحاءات مختلفة، وتفسيراتها مؤذية للأذن، بالرغم أنها عادية في حديثهم اليومي.
صقلية ليست مثل أي جزيرة تزورها خاطفاً، فهي محوطة بالأساطير والخرافات، وفيها خيرات الأرض أكلاً وفاكهة وعنباً، وفيها المرح والضحكات، وفيها دروب قديمة ما زالت تحمل أسماء عربية، ومبانٍ لها من المعمار الإسلامي والروماني، وفيها يمكن أن تقضي أياماً دون أسف وتحسر إلا إن جرّك الحنين التاريخي، وروائح المدينة القديمة المغبرّة.. وغداً نكمل.