كلما هل رمضان المبارك نفضت ذاكرتي غبار السنين، وعادت بي إلى زمن الصبا حين كنت أقوم بوظيفة المقرئ في بيتنا. حين كنت في العاشرة من العمر. إنها تجربة ما زالت حية تنبض في الذاكرة. فقد كنت الفرد الثاني المتعلم في العائلة. ولأني كنت أحب القراءة حد الشغف، كنت أستجيب لطلب العائلة لقراءة القرآن خلال شهر رمضان. وقد أنجزت قراءته كاملاً ثلاث مرات خلال سبعة وعشرين يوماً من الشهر. وفي الليلة السابعة والعشرين، كانت الاستعدادات لتلك الليلة المباركة تجري بعد صلاة العصر. حيث تقوم خالتي بإعداد المزيد من أنواع الطعام للإفطار للضيوف من الجارات اللاتي سيحضرن بعد صلاة التراويح لكسب الثواب بالاستماع إلى ذكر الله وتثويب آياته للموتى، بالاستماع بقلب خاشع لقراءة القرآن في شهر رمضان المبارك.
في ذلك اليوم تعنى الوالدة بنظافة البيت وتفرش حصراً في حوش البيت وتمد المساند على جدار غرفة خالتي حيث سيكون مجلسي خاشعة أمام المصحف الموضوع بجلالٍ على كرسي صنع من خشب الزان المحفور بطراز من النقوش النمطية القديمة. وسوف تعبق رائحة العود والبخور في فضاء البيت حتى أطراف الشارع وتصطف «مراش» ماء الورد وقوارير العود والعنبر والزعفران في صينية ذهبية أُعدت للمناسبات الكبيرة. بعد صلاة التراويح تتوافد الجارات، وبإشارة من خالتي لأبدأ القراءة يعلو صوتي الطفولي مرتّلا آيات من سورة البقرة، ثم سورة الحمد كخاتمة لقراءة للقرآن الكريم. وبعد أن أنجز القراءة، أبدأ في قراءة كتاب التثويب بين صمت النساء وتمتمات الاستغفار وسبغ الرحمة والغفران على أرواح الموتى والأحياء. كما اعتادت الجارات على الحضور ليلة الإسراء والمعراج إلى البيت يطلبن مني قراءة كتاب «الإسراء والمعراج» وكتاب (فتاوى القضايا الكبرى في الإسلام). وحين أقرأ عن صعود الرسول (صلى) إلى السماوات العلا يتصاعد التهليل والتكبير. وإذا قرأت وصفاً للجنة ونعيمها جزاء للصالحات من النساء تلتمع عيونهن بنشوة المحظوظ. وحين اقرأ فصل العذاب في الجحيم فإن النشيج يعلو ونهنهة البكاء الخفي تتصاعد آهات.!، في الأيام الثلاثة التالية من رمضان ينشغل الأهل بشراء ملابس العيد للأطفال، أما نهار العيد فإنه يبدأ منذ أذان الفجر. وينتشر الأطفال بعد ارتدائهم الملابس الجديدة، في الشوارع كحقول من الأزهار تفتحت دفعة واحدة. وكانت نقود العيدية تشخشخ في الأكياس الصغيرة التي خاطتها الأمهات بعناية تليق بالصغار!!