كانت جزيرة «كورسيكا»، موطن الإمبراطور نابليون بونابرت الذي غزا مدن العالم، واحدة من وجهات السفر بقصد الهروب للأمام أو هي استراحة لإعادة قراءة الحال والأحوال، ويمكن لإراحة النفس الأمارة بالحب، وتلك التي عندها الوطن هو تاج الرأس، دثار الأم، ولا يقبل المساومة، وأن العمر وازى طلب المعرفة، وروى بما ارتوى، وتساوت الأمور، والقناعة نجاة، سعيد من يقبض عليها، لأنه أوتي الحكمة، وخيراً فضيلاً.
ربما تعددت أسفار مثلها، ولغيرها، من أجل التطهر مما يعلق بثياب الإنسان الخيّر بفعل الوقت ومستجدات الأمور، وتقلب النفس البشرية، ورؤية أبشع ما فيها، فتنقذ نفسك الهشة الطرية مثل راحة طفل رضيع بالهروب إلى الأمام باتجاه الأماكن وطلب العافية والتعافي، مثل مدينة «بورصة» الخضراء «Yesil Bursa»، التي حملت اسم «خداوندكار»، ومعناها «هدية الله»، غير أن اشتقاق اسمها جاء من مؤسّسها الملك «بروسياس الأول»، ملك «بيثينيا» عام 186 ق.م.
في تلك المدينة التي يحرسها جبل «أولوداغ» كشاهد على الوقت، حين تدخلها قاصداً التبرك بتقديم الرجل اليمين، ومعدداً الواو كحرف سرمدي تناسل مع الدهر ليتلقفه مولانا جلال الدين الرومي وصوفيته ودراويشه ومريدوه، جاعلين منه رمز الولادة ووضعية الجنين والخلق، تدخل تلك المدينة التي تشبه فلاحة نضرة كالثمار التي ترعاها، وقد اغتسلت للتو أو جس الجبين المتعرق من الكد نفّ مطر جاء مباغتاً ومشاغباً، تدخلها بالبسملة، وبآي الحمد أن تبقى العافية هي التي تقودك، ولا تريدها أن تخذلك أو تعثر القدم المكسورة، والتي صبرت معك ومع شغف تجوالك، وتعب نهارات المسافات الذي لا ينتهي، بورصة.. تلك المدينة التي غسلت بالنور، لذا هي تشعرك بقيمة أن تحمل على ظهرك ثقلاً من ماضٍ مجيد، تدخلها فتلقي عليك فجأة عباءة من دفئها، ولا تحرمك من أُنسها، ولا من معنى السلام المبتغى من النفس وللنفس، ومجاورة ظلها، تلك مدينة استثنائية قصدها وتوقف عندها كثيرون، وعبر عصور ودهور، بعضهم كان ربما يحمل الشجن نفسه، بعضهم في طريق منفاه الأخير، كذلك كان الأمير عبدالقادر الجزائري، بعضهم كالسلطان بايزيد الأول الذي أقسم أن يعمر في بورصة عشرين مسجداً إنْ انتصر في معركة «نيكوبوليس» على الصليبيين، وبعد انتصاره، خرج له أحد وعاظ السلاطين، وأجاز له بفتوى أن يبني مسجداً بعشرين قبة، كفّارة نذره وقسمه، هو اليوم أكبر مساجدها، ورمز من رموزها، وقد بناه بالكامل من الأموال التي غنمها من تلك المعركة، بعضهم الآخر ربما استوطن تربتها ليدفن فيها أيامه، وكثيراً من أحلامه، تعدد زوّار المدينة والقصد والمقاصد كثيرة، والمدينة على عهدها ظللت سلاطين وغرباء وأتقياء وأغنياء.
في محطات العمر، ومفاصله، وطرق تقاطعه، كانت هناك مثل تلك الرحلات التي لا تشد لها غير طوق النجاة، تاركاً الأبواب تتصافق، والصدور تغلي غلي القدور، تريد الفوز بالطُهر، وجميل فعل الخير، وتلك السماحة الهاربة من وعن الكثير، لأنها الوحيدة الجالبة للعين نوماً دون تقلب، ودون اقتتال شياطين النفس في تلك الظلمة الزرقاء الغارق فيها الإنسان وحده.