همست لنفسها، لماذا تشعر أن ذاتها مزدوجة؟، ذاتها الغامضة حيناً، والواضحة حيناً آخر، ظلت نفسها المنقسمة، المتحدة التي تتصارع فيها ذاتان، أو شخصان: ذات متمردة ثائرة عديمة الرضا، وذات مستسلمة، ساكنة وربما يائسة، حائرة مختنقة الحماس لكل شيء حتى في انتفاضتها، وفي حركتها، ولكنها مع ذلك قوية، كلتاهما قوية، الأولى في تمردها والثانية في سكونها في تبلدها، في رغبتها الميتة، كلتاهما تتصارعان، كلتاهما قويتان، الجسد، الإطار الذي يضمهما، يعاني التعب والإرهاق. كلتاهما تعمل بجسمها وعقلها، كلتاهما تنهكانها، تسلبانها نعمة الصحة والعافية، لقد أوهنتا جسمها وعقلها وأذابتاه، ربما بدافع اليأس، وربما بدافع الحقيقة لتجد العزاء، أو تجدا بعضهما بعضاً في قطعة موسيقى شفافة تنقلها إلى عالم تسمو وتهفو إليه بكل جوارحها، عالم ذاتها الراغبة، عالم ذاتها القادرة المبدعة، لكن دون أن تتغلب على الذات الأخرى.
ليتها تمتلك وسائل تقوي ذاتها الرائعة المتمردة، ليتها تمتلك حريتها، هل تبدو حرة هي؟، كلا إنها مقيدة بذاتها المستكينة، حتى إنها لا تكاد تشعر أنها حرة، لمَ إذاً هي مقيدة إذا لم تكن مقيدة بها، بعالمها المرير المحيط بها، أليست قادرة على خلق عالم أفضل لنفسها؟، أليس كون هذا العالم مؤلماً ومليئاً بالأشواك، دافعاً لأن تخلق، لأن تزرع، لأن تنزع الأشواك، لأن تضمد الجروح لتخف حدتها.. أجل كل هذا ممكن لو أن ذاتها المتمردة والمبدعة تنتصر، وتسحق الذات المستسلمة للشوك والوردة، الألم والسعادة، إنها مجرد ذات، لا شيء يحمل لا شيء، إنها حس لا يحمل حساً!، هل فعلت هي ذلك حقاً؟!، أجل فعلته، ولكن كيف تصرفت، ولم هي ثائرة على نفسها الآن؟ أهي التي دفعتها لأن تفعل ذلك، فماذا تريد؟ وهل كانت سعيدة أم كانت تعيسة به، يعذب لياليها ويضجر نهارها، ولكن تتمنى من الشوق أن يهزها إلى أي شيء، ولن يعكر مزاجها، ولن يجعل جدران غرفتها تزحف نحوها وتعتصرها بين جدرانها، ثم تهدأ وتتنفس، ويحتضنها النوم في رفق وحنان فتنهض وتترك غرفتها حبيسة الجدران، وتروح تخترق الشوارع ساهمة، متفرجة على ما حولها، والشمس الساطعة تدفعها إلى إغلاق عينيها فتخشى التعثر، لكنها تسير، تجرها عربة السأم ويظمئها القيظ فتقترب من بائع العصير وتشرب كأساً من مزيج الفاكهة، وتعرج على المقهى الذي يحتوي كل ركاب العربة!.