- لو أستطيع أن أتذكر كل تلك المدن التي استقبلتني أو ودعتني بدموع عينها، وصبيب مطرها.. لو أستطيع أن أحصي صباحات مبللة أو مساءات معطرة برذاذ المطر.. لو أستطيع أن أغني لكل تلك القطرات والرذاذ غنائية اشتهاءات الماء، وألا يتوقف ذاك المطر المنهمر على صفحات الخد..
- السفر تحت جنح غمائم ماطرة أو سماء هاطلة، السير على أرصفة من حجر مبتلة لامعة، الاحتماء بمقهى كان يسرّب لك أنشودة المطر من خلال نوافذ ساهرة، متعة تلك الحدائق العامرة، ورائحة أوراق الشجر حين يبلّها الماء، وحين تزاغي أجنحتك المسافرة، تستدعيك لتبصّرك أن المطر في المدن أغنية ثانية.
- مطر في ليل «بودابست»، ونشوة عشاء في قلعة تاريخية، وذاك الصمت الخاشع بين المطر والحجر، والسير على دروب الخيل العتيقة تنتقي لحذائك اللامع أماكن لم تغمرها المياه، تبدو في مشيتك تلك كراقص باليه بدين أو مخفور بما تعتق من زمن الوصال، تترنح كسجين حزين، ليلتها كان المطر، وكانت تلك العناقيد المتدلية من ثقلها تقطر عنباً مصفى، فتتلاطم أمواج بحور الشعر لسعدي والشيرازي والخيام ابتهاجاً بظل مولانا «جلال الدين الرومي» البارد، والذي يبارك تلك الجدران الحجرية، صاهلاً بصوفيته: أتيه أنا فرحاً، لأني بعثت من الموت إلى الحياة.
- مطر في إسطنبول، وليلة احتفت بك تلك المدينة المهيبة بمطرها كأحد الأحفاد المنسيين لمن جاؤوا يسابقون على صهوات جيادهم الريح، وأضغاث أحلام مدن تسكن على ضفتي ما وراء النهرين، ليلتها كنت سخياً مع نفسك التي يطربها المطر في مدينة استثنائية، كنت غائباً عنها قرابة العقدين، فقدمت لك عطراً من روحها، فأقسمت أن تَبِرّها مدى العمر.
- مطر في باريس كرذاذ على عنق أنثى، يباغتها، فيجد كل النوافذ والأبواب مفتوحة له، باريس لا تخجل من مطرها، وحدها من تضفي عليه شيئاً من ألقها، كانت صباحات سترت شيئاً من مطر الليل، وأمسيات باحت لذلك القادم بطُهر الأشياء، الناثر الخير على قلوب العشاق، ليس مثل مطر في ليل، وفي باريس، لا تتقيه إلا بشعر امرأة خبأت فيه عطرها.
- لا فرح يذكر لمطر لندن، ولا لمطر في الهند، ولا لتلك المدن الآسيوية التي تخبئ أطفالها ومؤونتها إن دنت رعودها، وبرقت سماؤُها، لا نشوة لمطر يبقى أياماً طوالاً في مدن تشعرك أنها تهرب منه، وحدك كان يعني لك مطر تلك المدن، وكأنه أغنية أزلية بين الأرض والسماء، وحدك كنت تترنم بفرح تلك المفاجأة الماطرة.
- لمطر الصحراء براءته، مثل ماء على حرقة العطش، مثل التقاء الأشياء وهي عارية إلا من صدقها، مثل فرح جماعي لا يتكرر، يسِم الكل والجميع بدغدغة باردة، وكأنه يوقظ الضحك الساكن كرماد في الصدور، يعيد ترتيب الكل والجميع، ويعطيهم رونق ألوانهم حين كانت الحياة صلصالاً يتشكل، مطر الصحراء إن انقطع دعوا وطلبوا وألحوا في الدعاء وسجدوا، وإن نزل قامت له طقوس ونيران وأغان، ورقصات كانت عطشى، للمطر في الصحراء صلوات لا تنتهي من الشكر.
- السفر تحت صبيب مطر المدن، والسفر في المطر، وما يجلبه من تداعيات تخبئها الذاكرة له، هو سفر من نوع آخر، ولا يتكرر.