الإنسان بكل جبروته وعنجهيته وعبقريته أيضاً التي تفتقت من خوفه الفطري، هو من أجبن المخلوقات على الأرض، وتحت السماء.
منذ فجر التاريخ والإنسان يخوض حروباً شعواء ضد بني جنسه، كما يخوضها ضد الطبيعة بشكل عام، لأنه خائف من عدوان وهمي يصوره له عقله، وهو العقل الذي قاد الإنسان لصناعة الأسلحة الفتاكة، بدءاً من المسدس بحجم كف اليد، وانتهاءً بالأسلحة النووية.
خاف الإنسان في البدء من الزلازل والبراكين والسيول، ولجأ إلى الأشباح والجن والشياطين كي يحمي نفسه من بطش الطبيعة كما تصور وتوهم، ولكن بعد الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، وبعد أن بلغ الإنسان مبلغاً يجعله يعي أنه تجاوز الخوف من طوفان الطبيعة، بدأ يصطنع أعداءه من بني جنسه، وصار يتحزم بالسلاح الأعظم كي يتقي شر الآخر كما يدعي ويتخيل ويرسم من صور قاتمة ومحزنة ومؤلمة.
فهذا الخيال البشري الذي انبثق من العقل الجبار، لم يحرر الإنسان من الخوف بعد أن انتصر على الكثير من محدثات الطبيعة، بل على العكس انقلب الصراع من صراع مع الطبيعة إلى صراع أكثر دموية بين الإنسان والإنسان متخذاً صوراً وأشكالاً مختلفة وذرائع وحجج، ومبررات حول العرق والدين واللون وغيرها من إشكاليات مصطنعة وزائفة ولكنها احتلت مساحات واسعة في وعي الإنسان، والخوف لم يستقر في مكانه في الوعي عند الصراعات بين الأمم، بل إنه انتقل بشكل مساوٍ في العنف في ردهات الاقتصاد والاجتماع البشري والعلاقات بين الجماعات الصغيرة والأفراد والأسر الواحدة.
مفهوم الخوف تغير وأصبح يتخذ مجالات كثيرة ومنحنيات أكثر ومستويات أعم وأعمق، لأن الخوف ليس واقعياً كما يتصوره بعضهم، بل هو خوف مرضي، وهو خوف من صنع الخرافة الأولى التي جاءت محملة بأعباء طموحات خرافية جعلت من الإنسان يعيش حياة مرجفة منتفضة جراء الإحساس بأن هناك عيوناً تتربص به، وتستعد للاستيلاء على حقه في العيش، وإذا كان هذا يحدث في الواقع، إلا أن الإمعان في تركيز الإحساس بالخوف يجعل من الوهم حقيقة ومن الخيال واقعاً ومن بذرة الشر شجرة سمية عملاقة.
والقليلون من البشر يعرفون أن ما يخافونه ليس إلا محض خيال، ولكنهم لا يستطيعون التخلص منه، لأن العادة التاريخية هنا تلعب دوراً جوهرياً في تثبيت الخيال وجعله حقيقة فلكل امرئ من دهره ما تعود، وكثير من الأحوال نعرف أنها وهم، ولكننا لا نستطيع تجاوزها، أو تخطي عقباتها، لأنها أصبحت بفعل العادة، والتكرار غائرة في الجسد اللاشعوري، وتتحكم بالعقل الذي صنعها، وألبسها ثوب الحقيقة.