«الروح تطلب الأرواح» مثل قديم تحكيه الأمهات وقبلهن الجدات، وهو مثل يعبر عن رؤية فلسفية عميقة الجذور.
فلم يقلن الجسد يطلب الأجساد بل قلن الروح، لم تدرس تلك النساء العريقات علم النفس ولم يعرفن عنه شيئاً ولكن واقع التجربة والخبرات الطويلة على امتداد التاريخ والعقل الثاقب والذكاء الحاد جعل من المعرفة نهراً سخياً يغذي الأفكار وينمي التجارب ويفتح نوافذ الوعي لفهم ما يحدث وما يعايشه الإنسان في حياته.
اليوم عندما نفحص وجوه أطفالنا ونمحص سلوكياتهم ونتمعن في تصرفاتهم  نرى ما يدهش في ذكاء أمهاتنا وما يبهر في استنتاجاتهن الدقيقة، وهي استنباط ما يحدث عن طريق الفطرة ومن دون صحائف ولا كتب  فأطفال اليوم يعبرون عن واقعهم المغلق رغم اتساع الفضاء فيما حولهم وتوافر كافة سبل التواصل مع الآخر، ولكن لأن التواصل المزعوم هو تواصل عبر أجهزة صماء جافة كأنها أوراق الخريف، هذه الأجهزة والتي يتم التعامل معها من داخل الغرف المغلقة  أجهزت على آخر ذرة إحساس بأهمية أن يفكر الأطفال في الآخر وخارج تلك الغرف.
أطفال في سن الورد توافرت لهم كل أسباب السعادة، ولكنهم للأسف يخرجون من غرفهم بوجوه كأنها سجادات صوفية قديمة وعيون تكتسحها الغشاوة وقلوب أقفلت أبوابها ونأت بعيداً عن محيطها وصدور ضاقت كما هي المعاطف التي لا تتسق مع المقاس.
لماذا يا ترى؟ فعندما يقضي الطفل أو الشاب ساعات طويلة أمام «الآيباد» أو الهاتف وداخل غرف لا يدخلها حتى الهواء، فإن الإنسان عبد للعادة ولكل امرئ من دهره ما تعود فلن يستطيع هذا الإنسان (الصغير) أن يحطم أغلال العادة  ويتجه نحو الآخر من الأهل والأصدقاء ويتحدث معهم بلغة طيعة  لينة  مرنة  وبلا رتوش ولا خدوش؛ لأنه لا يملك هذه الملكة بل إن ملكة الشفافية طُمست تحت ركام من الصور الوهمية التي حملت معها غبار الصحاري وطمي الوديان  وقذفتها في صدور هؤلاء مما يعجزهم عن إزاحة هذا الكم الهائل من الأحمال الثقيلة  الأمر الذي يجعلهم يشعرون بالضجر وكذلك لعقدة النقص لأنهم لا يستطيعون التحدث إلى الآخر ولا المشاركة في موضوع ما حتى وإن كان الموضوع يخصهم كما يخص غيرهم. ماذا يحدث بعد ذلك؟
بالتأكيد كلما ازداد الشعور بالعجز كلما اتسع الشرخ  وكلما اتسع الشرخ  تضاعف الشعور بالدونية وهكذا تستمر التشققات في التزايد والاتساع  ومن ثم يصرخ الأهل والأقربون بأن ابنهم مصاب بالتوحد أو الاكتئاب السوداوي أو التنمر وكأن التنمر وغيره من الأمراض النفسية  جاءت فجأة  واقتحمت قلب ابنهم.. نقول ليس كل ما يحدث للأطفال والشباب هو نتيجة وليس سبباً  والسبب هو حفرة البيت العميقة  التي لا تنتج إلا أرانب مذعورة  بسبب تلك الغرف المغلقة،  كذلك العلاقات العصبية المشحونة بالغضب بين الآباء والأمهات.
فالأرواح ماتت بموت العلاقات المفتوحة بين الأسر ولم تبقَ سوى أجساد محنطة.