قوة الدبلوماسية العامة
في خضمّ الفوضى وانعدام الثقة التي تطبع العلاقات بين الولايات المتحدة ومصر، وحتى العلاقة بين الأميركيين والمصريين التي انحدرت إلى أدنى مستوى لها عبر كل الأزمنة والأوقات، فقد قُيّضت لي أخيراً فرصة المشاركة في اجتماع صغير يهدف إلى استبيان طريق المستقبل في هذا الموضوع.
وخلال الشهر الماضي، قام عشرون شاباً أميركياً ومصرياً من الحرفيين المتخصصين بزيارة إلى الولايات المتحدة في إطار برنامج تشرف عليه «مؤسسة شفيق جبر». وضم الفريق فنانين وأكاديميين ومتخصصين في شتى الحقول التي تتنوع بين القانون والطاقة.
وتركزت أهداف هذا البرنامج على تعزيز التفاهم بين الطرفين وإقامة مشاريع متكاملة بحيث يسخّر فيها المشاركون مهاراتهم ويتبادلون الخبرات فيما بينهم من أجل إحداث الاختراق المنشود في العلاقات الأميركية المصرية.
وفي بداية الأمر، قضى أعضاء الفريق ثلاثة أسابيع في مصر زاروا خلالها المواقع التاريخية وشاركوا في حوارات ونقاشات مع الأكاديميين وخبراء صنع السياسات وقادة الأحزاب والجماعات المحلية. وعندما ذهبوا إلى الولايات المتحدة، قاموا بزيارة خمس مدن للاطلاع على مواقعنا التاريخية والاجتماع بصناع الرأي من أجل التباحث معهم حول الاهتمامات السياسية التي تتنوع بين مكافحة التمييز العنصري، والانقسام الذي يعاني منه الكونجرس والجدل القائم الآن حول سياسة الهجرة وإصلاح نظام الرعاية الصحية.
وعلى نفس مستوى أهمية هذه النقاشات، استفاد أعضاء الفريق أيضاً من الوقت الذي قضوه مع بعضهم بعضاً فيما كانوا يتحاورون حول التمييز العرقي ودور الدين في محاولة التوصل إلى فهم أفضل للفروقات القائمة بين وجهات نظرهم الثقافية الخاصة. وخلال الحوارات التي أعقبت ذلك اكتشفت مدى أهمية مثل هذه النقاشات بالنسبة لأعضاء المؤسسة. وقد أصابت الدهشة المصريين عندما علموا باستمرار مشكلة «العرق» كواحدة من أعقد المشاكل في حياة الأميركيين، وفوجئوا أيضاً بالحالة العقيمة للسياسات التي تتبعها واشنطن. وكان لهاتين الظاهرتين أن تغيرا من نظرتهم إلى «المارد الأميركي».
وقد خرج المشاركون الأميركيون من هذه المناظرات بتفهم أفضل لطموحات المصريين العاديين، والتي ساعدت على إلغاء تصورهم السابق عن مصر اليوم. ولم يقتصر الأمر على تشكيل كل مجموعة من الفريقين لفهم أفضل حول المجموعة الأخرى، بل إن عدداً من أعضاء الفريق أخبروني بأنهم انتهوا من خلال هذه الحوارات إلى بلوغ كل طرف حالة من الرضا عن ثقافة وتقاليد الطرف الآخر.
وكان «برنامج جبر» يهدف إلى أكثر من خلق «المشاعر الطيبة» والعلاقات الشخصية. وكان العنصر الفعال في هذا الجهد هو تصميم أعضاء الفريق على العمل في فرق منفصلة لتطوير مشاريع تهدف إلى نقل خبراتهم وتبادلها مع الآخرين. ويتولى أحد الفرق مثلاً تنفيذ برنامج «الفنان المقيم» الذي يهدف إلى خلق الفرص للفنانين الشبان والمحترفين من مصر والولايات المتحدة في أن يستضيفوا بعضهم بعضاً بالتناوب في بلديهم بحيث يستقي كل طرف من خبرة الآخر خلال إقامته وينقلها إلى بلده. ويقوم فريق آخر بتطوير مشروع لابتداع شبكة «العيادة المصغّرة» microclinic لتقديم جملة من الخيارات المتعددة المتعلقة بالرعاية الصحية من أجل مساعدة أبناء الأرياف والفلاحين المصريين. وهذا البرنامج المصمم على غرار برنامج مماثل حقق نجاحاً باهراً في «كنتاكي»، سيقدم أيضاً التدريب وخطة العمل حتى يتمكن المصريون من إطلاق مشاريع مماثلة في مجتمعاتهم. وهناك مشروع آخر (أعتبره أنا الأفضل من بينها) يهتم بتنصيب شاشتين ضخمتين، واحدة في الولايات المتحدة وأخرى في مصر، تعملان كوسيلة للاتصالات تشتغل على مدار الساعة وتحقق لكل من المصريين المقيمين في الولايات المتحدة والأميركيين المقيمين في مصر الفرصة الدائمة لرؤية العالم الذي يعيشه الآخر والمشاركة في النقاشات التي تدور بين الطرفين.
والآن عاد الزملاء العشرون إلى بلدانهم، على رغم أنهم ما زالوا على تواصل مع بعضهم بعضاً في إطار الاستمرار في تطوير مشاريعهم التعاونية. وحالما تنتهي مشاريعهم تلك وتصبح جاهزة للتطبيق العملي، ستبدأ مجموعة أخرى من «مؤسسة جبر» بالتحضير لرحلتها القادمة. وتعتزم المؤسسة توسيع البرنامج عن طريق تشكيل مجموعات إضافية في كل عام مقبل.
وشفيق جبر، رجل أعمال مصري ناجح، كثير الاهتمام بوطنه، وقد أسس علاقات أواصر متينة مع الولايات المتحدة. وكان جو فقدان الثقة بين المصريين والأميركيين والفوضى العارمة التي ميزت طريقة معالجة الأميركيين للعلاقة مع مصر ما بعد عهد مبارك، قد سببت له الكثير من الانزعاج وحثه على العمل لمحاولة تخفيف هذا الاحتقان.
ومع هذا التثاقل الذي يعاني منه الاقتصاد المصري، بلغت العلاقات بين الأميركيين والمصريين أدنى مستوياتها على الإطلاق، وأصبح الجدل السياسي بين الطرفين، إما مفعماً بالمنغصات أو عامراً بالغموض. وانطلاقاً من هذا الموقف، شعر جبر بالحاجة للتدخل شخصياً بين الطرفين. وبما أن البعض سيرفض جهوده باعتبارها لا تشكل أكثر من «قطرة في دلو»، إلا أنها تمثل بالنسبة للمشاركين في برنامج جبر والمستفيدين من المشاريع التي يتيحها، خطوة لتطوير الحياة نحو الأفضل.
ويمكن للمرء أن يأمل في أن يقدم هذا النموذج الفريد حافزاً قوياً للقطاع الخاص للمشاركة في هذا النوع من «الدبلوماسية العمومية»، بحيث يصبح جزءاً من نشاطاته. وربما تبادر مؤسسات خاصة أخرى إلى تكرار مثل العمل الذي ابتدعته «مؤسسة جبر».
ويمكن لمبادرات جبر التي تضم 40 أو 60 أو 100 مشارك زميل كل سنة أن تنمو بحيث تضم الألوف. فإذا ما تحقق هذا، فسوف نصل إلى وقت ما في المستقبل تصبح فيه العلاقة بين الولايات المتحدة ومصر قد تم تشكيلها وفق الرؤى الشخصية للأفراد من الطرفين اللذين يعرفان بعضهما بعضاً حق المعرفة من خلال التواصل المباشر على مدى السنين.
ـ ــ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
جيمس زغبي
مدير المركز العربي/الأميركي